الأخبارالعالميةتحقيقات

سؤال الكون الأكبر.. هل أخطأ أينشتاين حقا في فهم الزمان؟

سؤال الكون الأكبر.. هل أخطأ أينشتاين حقا في فهم الزمان؟

مقدمة للترجمة

واحدة من المشكلات التي تواجه الزمن في نظرية ألبرت أينشتاين النسبية العامة هي أن الزمن كما يبدو لا يجري، بل هو موجود في الوقت نفسه سواء كان ماضيا أو حاضرا أو مستقبلا، وبالتالي لا يوجد أيضا شيء يمكن أن نُسميه الحاضر. لكن ذلك في مجمله يخلق كونا حتميا كل شيء فيه مُحدَّد بدقة، يحاول فيزيائي سويسري يُدعى نيكولاس جيزين أن يناقض هذه الفكرة بالقول إن الكون غير حتمي، وتسلسل الزمن فيه يشبه الأرقام التي تتولَّد بعد الأرقام العشرية في بعض الحالات، وبذلك يكون مُضي الزمن ظاهرة إبداعية تولد بسببها أرقام جديدة كلما مرّ الوقت! هذا التقرير يُقدِّم تلك النظرية الجديدة بأسلوب بسيط قدر الإمكان، لكنه لا شك معقّد بعض الشيء ويحتاج إلى بعض التركيز.

نص الترجمة

على الرغم من شعورنا بأننا نتأرجح بالزمن بين جمود الماضي وآفاق المستقبل المفتوحة، فإن ما يظل غريبا هو أن الحاضر لا يظهر في أي مكان بين قوانين الفيزياء الحالية. في نظرية النسبية لألبرت أينشتاين، على سبيل المثال، دُمج الوقت مع الأبعاد الثلاثة للمكان (الطول والعرض والارتفاع) فشكَّل سلسلة متصلة هي نسيج الزمكان (دمج لمفهومَيْ الزمان والمكان) بأبعاد المكان الثلاثة التقليدية، وأُضيف إليها الزمن باعتباره بُعدا رابعا.

يُطلق أينشتاين على هذه الفكرة “الكتلة الكونية” (block universe)، التي تُشير إلى أن تاريخ الكون كله كتلة واحدة، وهي كتلة حقيقية، بمعنى أن الماضي والحاضر والمستقبل متشابهون وموجودون في الوقت نفسه، وأن الظروف الأولية للكون هي التي تُحدِّد ما سيأتي لاحقا، وبالتالي لا مجال للمفاجآت، فكل شيء ثابت لا يتحرك، بمعنى أن المرور من لحظة زمنية إلى لحظة أخرى ليس إلا وهما، فالزمن لا يمر بحسب أينشتاين. ولتأكيد هذه الفكرة، كتب أينشتاين عام 1955، قبل وفاته بأسابيع، يقول: “أمثالنا ممن يؤمنون بالفيزياء يعرفون أن التمييز بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس إلا وهما مستمرا وعنيدا”.

لا تزال هذه النظرة التي تبنَّاها أينشتاين مُصوِّرا بها الواقع شائعة حتى اليوم، والسبب وراء ذلك تُشير إليه مارينا كورتيز، عالمة الكونيات بجامعة لشبونة البرتغالية، فتقول: “يؤمن معظم علماء الفيزياء بفكرة “الكتلة الكونية” لمجرد أن أينشتاين هو مَن تنبأ بها في نظريته النسبية، ومع ذلك، إن أطلق أحدهم لنفسه العنان وفكَّر بعمق أكثر قليلا فيما تعنيه الكتلة الكونية، فستراوده بالتأكيد تساؤلات وتشكُّكات حول الآثار المترتبة على كل ذلك”.

يُفكِّر بعض الفيزيائيين مليا وبتأنٍّ في الزمن من ناحية المشكلات الناجمة عن قوانين ميكانيكا الكم التي تصف السلوك الاحتمالي للجسيمات، نجد مثلا أن النطاق الكمي تحدث فيه تغيرات لا رجعة فيها ولا سبيل لإزالتها تُميِّز الماضي عن المستقبل، تسير هذه العملية كالتالي: يحافظ الجسيم على حالات كمية كثيرة ومتزامنة حتى تأتي اللحظة التي نقيسه فيها، عندها يتبنى الجسيم إحدى هذه الحالات فقط ويستقر عليها. لظروف غامضة، فإن نتائج القياس الفردية تكون عشوائية ولا يمكن التنبؤ بها، حتى عندما تتحد قياسات مجموع الجسيمات معا وتتبع الأنماط الإحصائية المتوقَّعة لها. يُمثِّل ذلك تناقضا واضحا، وعدم اتساق، بين طبيعة الزمن في ميكانيكا الكم والطريقة التي يعمل بها وفقا للنظرية النسبية، مما أدَّى إلى خلق حالة من الشك والارتباك.

نظرية جديدة

في عام 2019، نشر الفيزيائي السويسري نيكولاس جيزين أربع أوراق بحثية تحاول حل هذا الارتباك، المتعلِّق بالزمن في الفيزياء، وكما يرى جيزين، فإن مشكلة الزمن كانت طوال الوقت معضلة رياضية في الأساس، ويُفيد بأن الزمن عامة، وبالأخص “الحاضر”، يمكن التعبير عنه بسهولة بلغة رياضية عمرها قرن من الزمان تُسمى “الرياضيات الحدسية” (intuitionist mathematics) التي ترفض وجود عدد لا نهائي من الأرقام. عندما نستخدم هذا النوع من الرياضيات لوصف تطور الأنظمة الفيزيائية، فإنها توضِّح أن “الوقت يمر حقا، وتتولد إثر ذلك معلومات جديدة”، وتتحوَّل الحتمية الصارمة التي تنطوي عليها معادلات أينشتاين إلى حالة صعبة التنبؤ كما هو الحال مع ميكانيكا الكم، بحيث يظهر أنه في حين أن الأرقام محدودة ودقيقة، فإن الطبيعة نفسها تكون غير دقيقة ولا يمكن التنبؤ بها.

ما زال الفيزيائيون يحاولون استيعاب نظرية جيزين، فنادرا ما يحاول شخص ما إعادة صياغة قوانين الفيزياء بلغة رياضية جديدة، لكن العديد ممَّن وافقوه يعتقدون أن من المحتمل أن يتمكَّنوا من سد الفجوة المفاهيمية بين الحتمية التي تُقِرُّ بها النسبية العامة والعشوائية المتأصلة في النطاقات الكمية. ردا على مقال جيزين، كتبت نيكول يونجر هالبيرن، عالمة في مجال المعلومات الكمية بجامعة هارفارد: “اكتشفت أن الأمر مثير للاهتمام لدرجة تجعلني أمنح الرياضيات الحدسية فرصة لتأمُّلها”.

أما مارينا كورتيز، عالمة الكونيات من المرصد الملكي بالمملكة المتحدة، فإنها وصفت النهج الذي تبنَّاه جيزين بأنه “مثير جدا للاهتمام، رغم أنه صادم واستفزازي من حيث تداعياته أو النتائج المترتبة عليه، لكنه في النهاية يعالج مشكلة الدقة المتناهية التي تتصف بها الطبيعة”. في هذا الصدد، يقول جيزين إن من المهم صياغة قوانين فيزيائية تجعل من المستقبل آفاقا مفتوحة، وتُثبت أن حاضرنا حقيقي للغاية، لأن هذا هو ما نعايشه ونختبره الآن، ويستكمل قائلا: “بصفتي عالم فيزياء، فيمكن الوثوق فيما أقوله، كلنا نعلم أن الوقت يمضي، وأن الزمن في تغيُّر مستمر”.

يُعرَف نيكولاس جيزين بأفكاره النظرية المهمة والمؤثرة، خاصة تلك التي تنطوي على عنصر المصادفة في ميكانيكا الكم و”اللا محلية”، الظاهرة التي تتضح في التشابك الكمي.

يُعَدُّ الفيزيائي السويسري نيكولاس جيزين، البالغ من العمر 67 عاما، عالم فيزياء تجريبية في المقام الأول، نراه يُدير مختبرا بجامعة جينيف يُجري فيه تجارب رائدة في مجال الاتصالات الكمومية والتشفير الكمي، وهو يُعرَف بأفكاره النظرية المهمة والمؤثرة، خاصة تلك التي تنطوي على عنصر المصادفة في ميكانيكا الكم و”اللا محلية”، الظاهرة التي تتضح في التشابك الكمي.

اعتاد جيزين، بدلا من الذهاب إلى الكنيسة في صباحات يوم الأحد، أن يجلس بهدوء في منزله على كرسيه المريح مع كوب من الشاي الصيني الأسود ويُطلق العنان لنفسه للتفكير في ألغاز مفاهيمية عميقة، وصادف أنه كان يوم أحد أيضا منذ نحو عامين ونصف، عندما أدرك جيزين أن الصورة الحتمية للوقت في نظرية أينشتاين وبقية الفيزياء “الكلاسيكية” تفترض ضمنا وجود معلومات لا حصر لها.

لتوضيح ذلك، فلنضرب مثالا على الطقس نظرا لكونه نظاما مضطربا أو شديد الحساسية إزاء أي اختلافات أو تغييرات صغيرة. عمليا، لا يمكننا التنبؤ بالضبط بما سيكون عليه الطقس بعد أسبوع من الآن، ولكن لكونه نظاما خاضعا للفيزياء الكلاسيكية المهتمة بدراسة الظواهر الحركية للأجسام والقوى المُسبِّبة لحركتها، فإن الكتب الدراسية تُقِرّ نظريا بقدرتنا على التنبؤ بالطقس بعد أسبوع، وذلك إن تمكَّنَّا فقط من قياس كل سحابة وعاصفة من الرياح، ورصد كل جناح فراشة يطير في الهواء بدقة كافية.

من وجهة نظر الفيزياء الكلاسيكية، فإننا المخطئون لعدم قدرتنا على قياس الأحوال الجوية بأرقام عشرية دقيقة لاستنباط ما سيحدث في المستقبل أو تقديم توقعات دقيقة، في حين أن الفيزياء المختصة بالأحوال الجوية تعمل بدقة بالغة مثل عقارب الساعة. الآن، فلتتخيَّل معي أن هذه الدقة تشمل الكون بأسره، في عالم محدد سلفا بدقة متناهية يتجلى فيه الزمن، سنتمكَّن من تحديد ما حدث بالضبط في جميع الأوقات منذ بداية الكون إذا حدَّدنا الحالة الأولية لكل جسيم، لكن المشكلة أن كل جسيمات الكون ستكون مشفرة بعدد لا نهائي من الأرقام الدقيقة (المعلومات).

الأبحاث الحديثة تُظهِر أن المعلومات مادية، وتتطلَّب طاقة وتشغل مساحة. أدرك جيزين أن الحالات الأولية للكون (الانفجار العظيم) تتطلَّب قدرا هائلا من المعلومات مُكدَّسا في مساحة صغيرة للغاية، يُعلِّق على ذلك بقوله: “يستحيل التعامل ماديا مع عدد لا نهائي من المعلومات. في هذا الوضع، ما دامت الكتلة الكونية تفترض ضمنيا وجود معلومات بعدد لا نهائي، فلا بد أن تنهار”. وبدلا من ذلك، سعى جيزين إلى اكتشاف طريقة جديدة في الفيزياء لوصف الزمن، بحيث لا تتطلَّب هذه الطريقة معرفة دقيقة ومطلقة للظروف الأولية.

أعداد تعمل بالحدس

بالطبع هناك قبول معاصر بوجود سلسلة متصلة لا نهائية من الأعداد الحقيقية بعد الفاصلة العشرية (لو قسمت 2 على 3 مثلا فمن المفترض أن تستمر الأرقام بعد العلامة العشرية بلا نهاية)، لكن هذا القبول جاء بعد الكثير من النقاشات اللاذعة والعنيفة التي استمرت في العقود الأولى من القرن العشرين حول هذه المسألة. تبنَّى عالم الرياضيات الألماني الفذ ديفيد هيلبرت وجهة النظر (التقليدية) المُتعارَف عليها الآن التي تفيد بأن هذه السلاسل اللا نهائية من الأرقام الحقيقية موجودة ويمكن التلاعب بها باعتبارها كيانات مكتملة.

عارض هذا المفهوم علماء الرياضيات “الحدسية” وعلى رأسهم عالم الطوبولوجيا الهولندي الشهير لويتزن براور الذي تعامل مع الرياضيات بالكامل بوصفها بناء (construct)، كما أصرَّ على ضرورة أن تكون الأرقام قابلة للتكوُّن داخل هذا البناء وإجراء العمليات الحسابية عليها أو قابلة لاختيارها أو تنويعها عشوائيا واحدة تلو الأخرى. من وجهة نظره فإن الأرقام محدودة وتدخل في العمليات الحسابية التي من الممكن أن تصبح أكثر دقة مع مُضي الزمن.

في هذه الحالة، يكون للحدس تبعات عميقة الأثر في التعامل بعد ذلك مع الرياضيات، وفي تحديد أي العبارات يمكن أن تكون صحيحة. كان الانحراف الأكثر تطرُّفا عن المعايير الطبيعية للرياضيات هو أن “قانون الوسط المستبعد” (The law of excluded middle) -الذي يتفاخر به مؤيدوه لدرجة التباهي منذ زمن أرسطو- لم يطابق هذه المعايير. ينص هذا القانون على أنك إذا صدَّقت قضية أو صدَّقت نقيضها فلا مكان لقضية أخرى بينهما، بمعنى؛ إن صحَّت الأولى كذبت الثانية، ولا مجال لاحتمال ثالث، إما القضية صحيحة، وإما نفيها صحيح (مثال: إما هذا الرجل حي، وإما ميت، لا مجال لاحتمال آخر).

لكن بالنسبة لعالم الرياضيات براور، فإن البيانات المتعلقة بالأرقام قد لا يتضح إن كانت صحيحة أم خاطئة في أوقات معينة، وهذا لأن القيمة الدقيقة للرقم لم تُفصِح عن نفسها بعد. لتوضيح ذلك، نقول إن في هذه الحالة تتلاشى فعليا الفوارق بين أرقام مثل 4، أو ½، أو “باي” (π)، وهي النسبة بين محيط الدائرة وقُطرها. على الرغم من أن “باي” عدد غير نسبي (Irrational Number)، وبالتالي توسُّعه العشري ليس محدودا (قمة باي الرياضية التقريبية هي 3.14 لكن يمكن حسابها باستخدام الحاسوب حتى تريليون رقم بعد العلامة العشرية)، وهو ما يجعل التوسُّع العشري لـ “باي” (π) محددا مثل القيمة ½. (بمعنى أوضح، يمكن لك أن تكتب ½ بسهولة وتسكت، لكن “باي” يحدث لها توليد دائم للأرقام بعد العلامة العشرية ولن تنتهي الأرقام بعدها، لكن لأننا نمتلك الآلية التي نتمكَّن بها من توليد الأرقام، فيمكن لنا التعامل مع ½ و”باي” باعتبارهما شيئا واحدا).

لكن فكِّر في رقم آخر ولنقل “س” مثلا يكون مُقارِبا للقيمة ½، لنفترض أن قيمة “س” = 0.4999 حيث يوجد المزيد من الأرقام في تسلسل، وربما يستمر تسلسل العدد 9 إلى الأبد، لذا في هذه الحالة تتقارب قيمة “س” لتصل إلى ½ بالضبط. (حقيقة أن العدد 0.4999 يساوي نصفا (½) صحيحة تماما في الصيغ القياسية للرياضيات أيضا، إذ إن الاختلاف بين قيمة “س” وقيمة “½” ضئيل جدا).

ولكن ماذا إن صادفنا بأي وقت في المستقبل ظهور رقم آخر غير 9 في هذا التسلسل؟ ماذا لو أصبحت قيمة “س” على سبيل المثال تساوي 4.999999999999997؟ في هذا الوضع، وبغض النظر عما يحدث بعد ذلك، ستصبح قيمة “س” أقل من نصف. لكن قبل حدوث ذلك، أي حينما اقتصرت معرفتنا على أن القيمة تساوي 0.4999 فقط، كانت الأمور مختلفة. وكما أوضح كارل بوسي، فيلسوف الرياضيات في الجامعة العبرية بالقدس (في فلسطين المحتلة)، وخبير في الرياضيات الحدسية، قائلا: “في هذا الوقت لم نكن نعلم ما إذا كان سيظهر رقم غير 9 من الأساس، وبناء على ذلك، لا يمكننا الإقرار بأن قيمة “س” أقل من نصف، ولا حتى تساوي نصفا”. بمعنى أن افتراض أن قيمة “س” تساوي ½ ليس صحيحا، ونفي ذلك ليس صحيحا أيضا. نستنتج في النهاية أن قانون الوسط المستبعَد لا يمكن تطبيقه في هذه الحالة.

بجانب ذلك، لا يمكن لك بسهولة تقسيم هذا التسلسل إلى جزأين يتألفان من جميع الأرقام الأصغر من نصف وجميع الأرقام الأكبر من نصف أو تساويه. لتوضيح ذلك، أفاد كارل بوسي: “إذا حاولت تقسيم التسلسل إلى نصفين بسكين، فإن الرقم “س” سيلتصق في السكين، لن ينضم إلى مجموعة الأرقام على اليسار ولا على اليمين، وهذا لأن التسلسل لزج، إذ تظل الأرقام مستمرة في التكرار”.

شبَّه عالم الرياضيات الألماني هيلبرت إلغاء قانون الوسط المستبعَد من الرياضيات بـ “حرمان الملاكم من استخدام قبضتَيْه”، لأن هذا المبدأ تقوم عليه الكثير من الاستنتاجات الرياضية. وعلى الرغم من أن أفكار براور أجبرت بعض علماء الرياضيات أمثال كورت غودل، عالم الرياضيات والفيلسوف النمساوي، وهيرمان فايل، عالم الرياضيات الألماني، على الانتباه إليها، بل وأذهلتهم في النهاية، فإن المعايير القياسية بأرقامها الحقيقية في الرياضيات ظلَّت مُهيمنة بسبب سهولة استخدامها.

كون حدسي

خاض جيزين أول نقاش يتحدَّث فيه عن الرياضيات الحدسية في اجتماع قبل عدة سنوات بحضور كارل بوسي، وبينما يتناقش الاثنان، سرعان ما لاحظ وجود صِلة بين الأرقام العشرية غير المكررة في أي تسلسل والمفهوم المادي للزمن بالنسبة للكون، فتسلسل اللحظات من الحاضر إلى المستقبل المجهول يشبه تسلسل الأرقام بعد العلامة العشرية في الرقم “س”، قانون الوسط المستبعد غير موجود هنا أيضا، وبالتالي فالمستقبل غير حتمي. خلال البحث الذي نُشر في ديسمبر/كانون الأول 2019 بالمجلة العلمية الأميركية “فيزيكال ريفيو” (Physical Review)، استعان جيزين ومساعده فلافيو ديل سانتو، الباحث الرياضي بجامعة فيينا، بالرياضيات الحدسية لصياغة نسخة بديلة من الميكانيكا الكلاسيكية تُقدِّم التنبؤات نفسها التي تُقِرّ بها المعادلات القياسية، لكن الفرق هنا أنها تتعامل مع الأحداث المستقبلية على أنها أحداث غير حتمية، مما يخلق صورة لكون يتضمَّن أحداثا غير متوقَّعة، ويتجلى فيه الزمن بصفته حقيقة خالصة.

يشبه الأمر إلى حدٍّ ما أحوال الطقس، تذكَّر أننا لا نستطيع التنبؤ بالأحوال الجوية بدقة، لأننا ببساطة لا نعلم الظروف الأولية لكل ذرة على الأرض بدقة متناهية، ولكن في نظرية جيزين التي تتبنى فكرة أن جميع الظروف حولنا ليست حتمية، لم يكن لهذه الأرقام الدقيقة وجود على الإطلاق من الأصل. تُفسِّر الرياضيات الحدسية هذا الأمر كالتالي: في الوقت الفعلي، يقع الاختيار على الأرقام التي تُحدِّد حالة الطقس بدقة أكبر. تعليقا على ذلك، قال ريناتو رينر، عالم فيزياء الكم في المعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا: “إن ما يُقِرّ به جيزين يُشير في العموم إلى استحالة وجود تنبؤات حاسمة أو حتمية أساسا”.

بعبارة أخرى، كل ما يحدث في العالم عبارة عن أمور غير حتمية، والمستقبل مفتوح أمامنا على مصراعيه ولا نعلم ما قد يحدث فيه. في هذا الصدد، يقول جيزين: “لا يتجلى الزمن أمامنا مثل فيلم معروض على شاشات السينما، لكنه في حقيقة الأمر ظاهرة إبداعية تولد بسببها أرقام جديدة كلما مرّ الوقت”.

تقول فاي داوكر، عالمة الفيزياء النظرية في مجال الجاذبية الكمومية بجامعة إمبريال كوليدج في لندن: “إنني أُبدي تعاطفي الكامل وتأييدي للحجج التي أدلى بها جيزين، لأنه بذلك قد اختار جانب البعض منا الذين يعتقدون أن الفيزياء لا تتوافق أحيانا مع تجاربنا، وبالتالي فهي تفتقر إلى شيء ما”. توافق داوكر على أن اللغات الرياضية تُشكِّل فهمنا للزمن في الفيزياء، في حين أن الصيغ القياسية التي وضعها هيلبرت، التي تتعامل مع الأعداد الحقيقية بصفتها كيانات مكتملة ليست في الحقيقة سوى “صيغ جامدة”، تتسم بكونها أبدية (غير محددة بالزمن)، فتقول: “هذا بالتأكيد تقييد لنا بصفتنا فيزيائيين إذا كنا نحاول مثلا إدراج شيء ديناميكي مثل تجاربنا الفيزيائية التي نترقَّب من خلالها مرور الزمن”.

بالنسبة للفيزيائيين مثل داوكر، المهتمين بالصِّلات أو الروابط بين الجاذبية وميكانيكا الكم، فإن أحد أهم الآثار المترتبة على هذه النظرة الجديدة للزمن هو البدء في سد الثغرة بين ما كان يُعتقد منذ فترة طويلة أنهما وجهتا نظر متعارضتان عن العالم. في هذا الصدد، يُعلِّق عالم الفيزياء رينر قائلا: “إن أحد الآثار المترتبة على ذلك بالنسبة لي هو أن الميكانيكا الكلاسيكية في بعض النواحي أقرب إلى ميكانيكا الكم مما كنا نظن”.

ولكن إذا أراد الفيزيائيون حل لغز الزمن، فلن تقتصر المشكلة على التعامل مع استمرارية الزمكان لأينشتاين فقط، وإنما أيضا هناك مشكلة أخرى وهي أن الكون عبارة عن عالم كمي محكوم بالمصادفات. ترسم نظرية الكم صورة مختلفة تماما للزمن عن نظرية أينشتاين، فيقول رينر: “المشكلة أن أكبر نظريتين في الفيزياء: ميكانيكا الكم والنسبية العامة، يُدليان بتصريحات مختلفة”، وصرَّح هو وعدة فيزيائيين آخرين: “إن هذا التناقض يُشكِّل أساس الصراع بين العلماء للتوصُّل إلى نظرية الجاذبية الكمية، وهي نظرية تحاول دمج ميكانيكا الكم مع النسبية العامة بحيث تصف الأصل الكمي للزمكان وتوضِّح سبب حدوث الانفجار العظيم، لذا إن تساءلت عن أصل المفارقات وجميع المشكلات التي نواجهها، فستُفضي جميع الطرق دائما إلى فكرة الزمن هذه”.

يتسم الزمن في ميكانيكا الكم بالجمود، ويفتقر للمرونة والتداخل مع أبعاد الفضاء كما في النسبية، يقول رينر: “إن قياسات الأنظمة الكمية تجعل الوقت يمضي بلا رجعة، في حين أن معادلات النظرية نفسها تسمح بالعودة في الزمن للخلف وتغييرها، يلعب الزمن دورا في هذه الأمور التي ما زال يتعذَّر علينا فهمها”. يرى العديد من الفيزيائيين أن فيزياء الكم تخبرنا أن الكون غير حتمي، كل ما يحدث فيه ليس حاسما. تعليقا على ذلك، يقول نيما أركاني حامد، عالم الفيزياء الأميركي الإيراني بمعهد الدراسات المتقدمة في برينستون بنيوجيرسي: “لديك الآن ذرتا يورانيوم؛ إحداهما تتحلل بعد 500 عام، والأخرى تتحلل بعد ألف عام، ومع ذلك فإنهما متطابقتان تماما، ألا يعني هذا بحق الله أن الكون ليس حتميا؟!”.

ومع ذلك، فإن التفسيرات الشائعة الأخرى لميكانيكا الكم، بما فيها تفسير نظرية الأكوان المتعددة، قادرة على إبقاء المفهوم الحتمي الكلاسيكي للزمن نابضا ومستمرا. تُصوِّر هذه النظريات الأحداث الكمية على أنها حقيقة محددة سابقا، إذ تفيد نظرية الأكوان المتعددة، على سبيل المثال، بأن القياسات الكمية المختلفة تُقسِّم العالم إلى فروع متعددة تُحقِّق جميع الاحتمالات الممكنة التي تكون كلها محددة سلفا. أما أفكار جيزين، فنجدها تأخذ الاتجاه المعاكس، فبدلا من محاولة جعل ميكانيكا الكم نظرية حتمية، فإنه يتطلع إلى تقديم لغة مشتركة غير حتمية تضم كلًّا من الفيزياء الكلاسيكية وفيزياء الكم، لكن هذا النهج يبتعد كثيرا عن المعايير القياسية لميكانيكا الكم.

في ميكانيكا الكم، يمكن خلط المعلومات أو التشويش عليها أو تشفيرها، لكنها لا تُولد من جديد أو تُدَمَّر أبدا. ولكن إذا كانت الأرقام التي تُحدِّد حالة الكون تزداد بمرور الوقت كما اقترح جيزين، فإن من الطبيعي أن تولد معلومات جديدة، ويُصرِّح جيزين برفضه “التام” لفكرة أن المعلومات محفوظة في الطبيعة (دون زيادة أو نقصان)، ويعزي رفضه لأسباب أهمها “أن المعلومات الجديدة تستمر في الظهور كما هو واضح أثناء عملية القياس”، ويُضيف قائلا: “أرى أننا في حاجة مُلِحَّة إلى تغيير وجهة نظرنا إزاء هذه الأفكار كاملة”.

قد تُشير هذه الطريقة الجديدة في التفكير للوصول إلى حل إلى المعلومات المتناقضة حول الثقب الأسود، أو ما يُعرف بمفارقة معلومات الثقب الأسود، التي تسبَّبت في حيرة كبيرة حول مصير تلك المعلومات التي ابتلعتها الثقوب السوداء. ترى النسبية العامة أن هذه المعلومات تُدَمَّر تماما، في حين تُفيد نظرية الكم بأنها مُخزَّنة ومحفوظة دون المساس بها، وهنا تكمن المفارقة. لكن إذا ظهرتْ صياغة مختلفة لميكانيكا الكم معتمدة على الرياضيات الحدسية، وسمحت بفكرة أن المعلومات تولد عن طريق القياسات الكمية، فلعلها تقبل أيضا بفكرة أن المعلومات قابلة للتدمير.

يرى جوناثان أوبنهايم، الفيزيائي النظري في كلية لندن الجامعية، أننا نفقد المعلومات بالفعل داخل الثقوب السوداء. إنه لا يعرف ما إذا كانت حدسية براور ستكون السبيل لإظهار ذلك كما يعتقد جيزين، لكنه أوضح وجود سبب للاعتقاد بأن خلق المعلومات وتدميرها ربما يرتبط ارتباطا وثيقا بالوقت قائلا: “تُدَمَّر المعلومات ولكن خلال بُعد الزمن (مرور الزمن)، وليس خلال أبعاد المكان (لمجرد كونها تنتقل عبر الفضاء)، فالأبعاد التي تُشكِّل الكتلة الكونية لأينشتاين تختلف تماما عن بعضها (سواء كانت مكانية أو زمنية)”.

الزمان اللزج

تُقدِّم الرياضيات الحدسية إلى جانب دعم فكرة الوقت الإبداعي (وربما المدمِّر) تفسيرا جديدا لتجربتنا الواعية بالوقت. تذكَّر أن التسلسل الزمني المستمر في هذا المجال يكون دبقا (لزجا)، ويستحيل شقه إلى نصفين. يربط جيزين هذا الالتصاق بإحساسنا بأن الحاضر “لحظة قائمة بذاتها”، لحظة جوهرية أو مقدسة وصادقة نحياها الآن وليس مجرد نقطة زمنية تفصل بين الماضي والمستقبل. في الفيزياء القياسية، باعتمادها على الرياضيات القياسية، يُعَدُّ الوقت معاملا مستمرا يمكن أن يأخذ أي قيمة على خط الأعداد، فيقول جيزين مُعلِّقا على ذلك: “إذا كان التسلسل الزمني مُمَثَّلا بالرياضيات الحدسية، فلا يمكن تقسيم الوقت إلى قسمين، لأنه دبق أو سميك (متماسك) بسُمك أو لزوجة العسل نفسها”.

لكن لا يزال كل ذلك مجرد تشبيه، يقول أوبنهايم: “يتملكني شعور جيد إزاء فكرة أن الحاضر كيان مستقل بذاته أو متماسك، ولست متأكدا من السبب وراء ذلك الشعور”. حفَّزت أفكار جيزين استجابات مُنظِّرين آخرين، وقد اتفق العديدون منهم على أن الأرقام لا تبدو حقيقية في عالمنا المادي، وأن الفيزيائيين يحتاجون إلى صياغات جديدة لا تعتمد على هذه الأرقام.

أيَّد ساندو بوبيسكو، أستاذ الفيزياء بجامعة بريستول البريطانية، وجهة نظر جيزين الأخيرة عن العالم غير الحتمي، لكنه صرَّح بعدم اقتناعه بأن الرياضيات الحدسية ضرورية. في المقابل، وجد أركاني حامد أن استخدام جيزين للرياضيات الحدسية أمر مثير للاهتمام، ويمكن أن يكون ذا صلة بقضايا أخرى مثل الثقوب السوداء والانفجار العظيم، حيث يندلع صراع واضح بين نظرية الجاذبية الكمية وميكانيكا الكم، واستكمل حديثه قائلا: “إن نوعية الأسئلة على غرار؛ هل الأرقام محددة؟ أم أن هناك عددا غير نهائي منها في الكون؟ أم أنها تولد بمرور الوقت؟ قد تكون مرتبطة بالطريقة التي نتبنَّاها عند تفكيرنا في علم الكونيات أثناء مواجهتنا لمواقف يتعذر علينا فيها تطبيق ميكانيكا الكم”. يرى أركاني أيضا أننا بحاجة إلى لغة رياضية جديدة يمكنها أن “تُحرِّر” الفيزيائيين من الدقة اللا نهائية في حساب كل شيء، وتوفِّر لهم متنفسا “للتحدُّث عن أشياء غامضة بعض الشيء”.

تردَّد صدى أفكار جيزين في العديد من النواحي، وجذب الكثير من الانتباه، ورغم ذلك ما زال يتعيَّن عليه التدقيق في تفاصيل هذه الأفكار، وتوضيح كيفية تجسيدها على أرض الواقع. للمُضي قُدما، يتطلَّع جيزين للعثور على طريقة لإعادة صياغة نظرية النسبية وميكانيكا الكم من ناحية رؤيتهما للرياضيات الحدسية كما فعل مع الميكانيكا الكلاسيكية، وقد تُقرِّب هذه الخطوة النظريات من بعضها، وتجعلها أسهل للفهم، كما أن لديه بعض الأفكار حول كيفية التعامل مع الجانب الكمي.

في الحياة اليومية، عندما تُلقي عملة معدنية، فالنتيجة إما صورة وإما كتابة (رأس أو ذيل)، لكن تصرُّف الجسيمات دون الذرية أكثر تعقيدا من ذلك، بمعنى أن النظام الكمي يمكنه الوجود في حالتين مختلفتين، أو في مزيج بينهما في اللحظة نفسها، ولذلك يعتبر وصف حالة الجسيمات أعقد من وصف حالة العملة المعدنية. لتوضيح ذلك، يقول جيزين: “حاول تحديد موقع نظام كمي، مثل وجود إلكترون على سطح القمر، وإذا فعلت ذلك باستخدام الرياضيات القياسية، فيتعيَّن عليك الإقرار أيضا بوجود احتمال ضئيل للغاية أن هذا الإلكترون موجود على سطح الأرض أيضا، إنه احتمال ضعيف للغاية، ولكنه ليس معدوما”.

ردا على تساؤل جيزين القائل: “بالنسبة للأعداد الصغيرة للغاية، لمَن ننسبها؟”، فسيكون رد معظم التجريبيين: “انسبها إلى الصفر وتوقَّف عن التساؤل”. في حين سيرد العلماء الأكثر ميلا لتجربته: “ثمة شيء ما يتعلَّق بالرياضيات، ربما يحمل مفتاحا للإجابة عن هذه التساؤلات”، وتابع جيزين: “لكن الأمر يعتمد الآن على أي فرع من الرياضيات سيُفيدنا بجواب. إن كانت الرياضيات الكلاسيكية، فتوجد فرصة لظهور الإلكترون على سطح الأرض، أما الرياضيات الحدسية فلا يوجد أمل على الإطلاق”.

منذ أن نشر جيزين دراسته لأول مرة، أصبح المستقبل أشد التباسا وأكثر غموضا. لكن الآن ونحن في خضم هذه الأزمة الوبائية (كورونا)، أصبحت جميع الأيام بالنسبة إليه هي يوم أحد، يمكث بعيدا عن المختبر، ولا يستطيع رؤية حفيداته إلا على شاشات الأجهزة. يرى أن هذه فرصة جيدة لمواصلة التفكير وهو في منزله مُمسكا بكوب من الشاي، ومُستمتعا بإطلالة حديقته الجميلة.

_______________________________________

ترجمة: سمية زاهر

هذا التقرير مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى