الأخبارالرياضة العالمية

بارسا ما بعد ميسي.. ماذا لو أصيب ليوناردو؟

بارسا ما بعد ميسي.. ماذا لو أصيب ليوناردو؟

خلال نشأته في ضواحي فوسينيانو بإيطاليا، كان لدى أريغو ساكي، المدرب الإيطالي الشهير اليوم، ذلك الصديق الفذ الذي يسبق أقرانه ويتقدَّمهم جميعا حينما يتعلَّق الأمر بركل كتلة الجلد المدور. “ليوناردو” كان الأفضل بوضوح، كان الأفضل للدرجة التي سلب فيها زملاءه قدرتهم على أن يكونوا أنفسهم فقط لوجوده معهم في مكان واحد، لم يتجرَّأ أحد لأن الجميع قد علم ضمنيا أنه أقل شأنا منه في ملعب كرة قدم، بل أصابهم داء التواكل في حضوره، لدرجة أنك لم تكن لتسمع من المدرب آنذاك إلا جملة واحدة: “مَرِّروا إلى ليوناردو، مَرِّروا إلى ليوناردو”، الأمر الذي دفع ساكي ذات مرة لسؤال مدربه: “ميستر.. ماذا لو أُصيب ليوناردو؟”.

 

في بارسا لم يصب ليوناردو الخاص بهم، بل رحل! والعجيب أنهم لم يستعدوا أبدا لهذا السؤال؛ لم يرغب أحد في الاستيقاظ من الحُلم، حتى عندما بلغ ليو مشارف الثلاثين، لم يرغب أحد في إدراك الواقع والتحضير له وتقبُّل ذلك الفصل من القصة، لدرجة أنه حتى اليوم الأخير كان هو الذي يحمل الفريق والنادي على عاتقيه في الوقت الذي كان يُفترض فيه العكس.

ما قدَّمه ليو طوال تلك السنوات كان من المفترض أن يدفع الجميع للتخطيط لغروب شمسه وكيفية ملء الفراغ الذي سيتركه، بدلا من التعامل معه على أنه سيظل متاحا للأبد، ولأن الكثير من الإشباع يتبعه الكثير من الطلب، كان من المفترض أن يكون ذلك الملف على رأس الأولويات الإدارية بنهاية كل أسبوع، بدلا من رفض أي سيناريو لا يكون ميسي متاحا فيه، كان من المفترض أن يكون خروجه بالتراضي لا بالإكراه. كان من المفترض أن يخلف رحيله معايشة ألم الفقد، بدلا من خزي التعري.

 

لكن تلك القصة مناسبة لنفهم كيف يمكن أن يكون نجاحك أحد أسباب فشلك، في النهاية كان على كل مَن في برشلونة أن يُعايشوا ألما ما، والآن قد لحقهم الكابوس الذي دائما ما تهرَّبوا منه، لقد رحل ليو فجأة وحان وقت التفكير.

 

لعنة الرقم واحد

عام 1961، قرَّرت شركة “آفيس” (Avis) الأميركية لتأجير السيارات إطلاق حملة إعلانية يائسة بعدما أدمنت تكبُّد الخسائر في ظل سيطرة شركة “هيرتز” (Hertz) على سوق تأجير السيارات وقتها، كانت الحملة بعنوان: “عندما تكون في المركز الثاني، فإنك تعمل بجد أكبر”. ورغم أنها كانت محاولة يائسة من الشركة، فإنها حظيت بمفعول السحر في زيادة مبيعات الشركة ونمو حصتها السوقية، بل وتحقيق الأرباح، لدرجة استمرار الشركة في إعادة استهلاك الحملة لمدة 50 عاما. (1)

 

نجحت الحملة لأن شركة “آفيس” توصَّلت إلى حقيقة يتجاهلها الكثيرون؛ صاحب المركز الثاني عليه أن يعمل بجد أكبر. عندما تكون في المقدمة، فإنك تشعر أن كل شيء على ما يُرام، وبمرور الوقت يتلاشى احتياجك إلى تجديد نفسك إلى أن تُصاب بالكسل. يرى “سايمون كوبر”، الصحفي والكاتب الرياضي، في كتابه “The Barcelona Complex” أن ذلك كان السبب الرئيسي لتدهور نادي برشلونة، النادي الذي تربَّع على عرش الكرة العالمية خلال العقد الماضي، إلى أن وصل به الحال مَدينا بمليار ونصف يورو، وعاجزا عن تجديد عقد قائده وأفضل لاعب في تاريخه ليسمح له بالرحيل رغما عنه، لقد سقط برشلونة في المصير الحتمي للرقم واحد. (2)

هناك العديد من الأسباب التي جعلت برشلونة يحتل المرتبة الأولى، ولكن ربما كان الجيل التاريخي من اللاعبين وتحديدا ليو ميسي هو السبب الأهم. فمنذ انفجاره المدوي مع بيب غوارديولا عام 2008 سرعان ما أصبح الأرجنتيني مظلة المنظمة بأكملها، وبفضله أصبحت إدارة برشلونة وظيفة سهلة نسبيا، إذا فزت بدوري أبطال أوروبا أربع مرات (أربعة أضعاف ما كان عليه في نصف القرن السابق)، فإن الصراعات الداخلية ستزول، وستختفي المناديل البيضاء من الملعب، وسيسود الاستقرار للحد الذي لم يقم فيه النادي منذ عام 2003 حتى عام 2020 بإقالة مدرب خلال الموسم.

 

أعطى برشلونة مفاتيح النادي لميسي، فأصبح أنجح مشروع رياضي بإدارة فردية في تاريخ اللعبة، ليو كان يؤدي كل ثلاثة أيام لمدة خمسة عشر عاما، ميسي هو اللاعب الوحيد في كرة القدم الذي يساهم بهدف “على الأقل” ما بين تسجيل وصناعة لكل مباراة، ليس فقط لموسم واحد ولكن لمدة 13 عاما، وتحديدا منذ موسم 2008-2009، لكن الجانب المُظلم لذلك التفرُّد أنه جعل المؤسسة كسولة، بوجوده على أرض الملعب لم يكن على برشلونة العمل بجدية، بل لم يكن عليهم العمل من الأساس (3)، فقد تم تبسيط فلسفة الفريق بمرور الوقت واختصار نظام اللعب في عبارة واحدة: “أعطِ الكرة لميسي وسيتولى الأمر”، ما أُطلق عليه في كتالونيا “Messi Dependencia”.

الأسوأ أن الأمر لم يتوقَّف فقط عند ميسي، لقد تُركت السلطة تماما في نهاية عهد بارتوميو لبقية اللاعبين، للحد الذي خرج فيه جيرارد بيكيه ذات مرة مُصرِّحا نيابة عن لاعبي الفريق بأنهم مستعدون للاقتطاع من رواتبهم إذا كان ذلك يساعد في إعادة نيمار! أين رأيت شيئا مشابها لذلك من قبل؟ ومتى كانت المرة الأخيرة التي قال فيها لاعب علانية إنه سيخفض هو وزملاؤه رواتبهم إذا تعاقدت الإدارة مع لاعب بعينه؟ كان ذلك هو الوضع القائم في برشلونة، حيث يمكث هناك لاعبون استثنائيون، أورث نجاحهم التراخي لدى صُنَّاع القرار، الذين اعتقدوا أنهم لكي يستمروا في الحصاد دون عناء، فيجب أن يُقدِّموا مزيدا من الصلاحيات لصُنَّاع النجاح الحقيقي من اللاعبين. (4)

 

صحيح أنه عندما يكون لدى فريق ما أفضل اللاعبين فمن الطبيعي الاعتماد عليهم أكثر من غيرهم، يحدث ذلك في كل رياضة جماعية تقريبا؛ اعتمد شيكاغو بولز على مايكل جوردان، والأمر ذاته كان مع ماجيك جونسون رفقة الليكرز، لكن لم تصل الاعتمادية إلى تلك الدرجات من الكسل المؤسسي، ولم تتحوَّل أبدا إلى التسليم والتراخي الذي أسقط المؤسسة من قمة النجاح إلى دركات الفشل. اعتقد سايمون كوبر، عندما شرع في كتابه عام 2019، أنه بصدد شرح كيفية وصول النادي إلى العظمة، وهو ما فعله، لكن انتهى به الأمر أيضا مُوثِّقا رحلة سقوطه.

 

الموهبة تحكم

قبل وصول ميسي، عاش برشلونة في حاضر أبدي كانت المباراة القادمة فيه تُمثِّل الأزمة التالية على الفور. نادرا ما كان الفريق قادرا على الارتقاء إلى مستوى توقُّعات الأمة الكاتالونية، على الرغم من تميُّز النادي بأفضل لاعبي العالم دائما؛ يوهان كرويف ودييغو مارادونا والبرازيليين روماريو ورونالدو وريفالدو ورونالدينيو ونيمار، لكن الشيء المشترك بينهم أن أوقاتهم في النادي لم تدم طويلا، لذا كان على ميسي أن يكون الاستثناء، النجم الذي وصل في الثالثة عشرة من عمره واستمر بين جدران المدينة لمدة 21 عاما.

 

يُقر سايمون كوبر أنه امتلك عزما حقيقيا أثناء إجراء المقابلات الخاصة بكتابه لمعرفة مَن يملك القوة الحقيقية داخل النادي. راودت كوبر تخيُّلات واسعة، لكن الإجابة جاءت مباشرة وسريعة: “هنا، ميسي هو مَن يحكم لأنه اللاعب الأفضل. في كرة القدم، يحكم أفضل اللاعبين، لأنهم ببساطة لا يمكن تعويضهم”، وهو ما يُفسِّر لماذا صمَّم النادي بيئة العمل بالكامل لجعله يشعر بالراحة، وعمل على تنفيذ كل طلباته مهما كلَّف الأمر. (5)

يوضِّح الرئيس السابق لبرشلونة “ساندرو روسيل” لكوبر أن ميسي في أوقات كثيرة لم يحتج إلى قول أي شيء، لأن لغة جسده هي أقوى ما رأى على الإطلاق، إذ إنه بمجرد النظر إليه كان يمكنه معرفة إذا كان يوافق على ما يُطرح أم لا، وكان ذلك كافيا، فهو أذكى بكثير مما يبدو عليه ومما يعتقده الناس عنه، ما دفع كوبر لسؤاله عما أراده ميسي تحديدا؟ ليُجيب الرئيس السابق: “لا شيء سوى لعب كرة القدم، لكن وفقا لتفضيلاته”.

 

لم يكن لدى ميسي حق انتقاد القرارات الداخلية لأن هناك الكثير من القوى الداخلية الأخرى، لكن كان على صانعي القرار في برشلونة أخذ رغباته في عين الاعتبار فيما يتعلَّق بالانتقالات والتدخُّلات التكتيكية المهمة وتعيينات المدربين لمدة 15 عاما تقريبا. لم يشعر ميسي أبدا بأي دافع لتأكيد شخصيته خارج النادي، لكن داخليا، كانت هناك قصة مختلفة، فضَّل ميسي ترك كل شيء للمديرين والمدربين، ولكن إذا فعلوا ما يريد. وهو ما بدا جليا في ملف إعادة نيمار، إذ لم ينجح سعي برشلونة المزيَّف لإعادته في صيف 2019 في خداع ميسي، فعندما سُئل عما إذا كان النادي قد فعل كل ما في وسعه لإعادة البرازيلي، أجاب: “لا أعرف، لا يبدو كل شيء واضحا”. وعندما لاحقه الصحافيون بسؤاله عما إذا كان يدير النادي، أصدر إنكارا شديد اللهجة: “من الواضح أنني لا أقوم بتوجيه الأمور، أنا مجرد لاعب”.

 

وهو ما لم يتفق معه أحد موظفي النادي -وفقا لكوبر- الذي عمل مع ميسي قبل أول ظهور له مع الفريق الأول في 2004، حيث يوضِّح: “ميسي يتخذ القرارات، إنه يعلم أنه يمكن أن يقضي على أي شخص، هو لا يبحث عن الصدام، هو فتى لطيف لكنه يعلم أن لديه القوة، وعندما يخسر ميسي معركة فهو يُدوِّنها في دفتر ملاحظاته”. كان فشل إعادة نيمار أكبر هزيمة لميسي داخل برشلونة، وقد أضافها بطبيعة الحال إلى دفتر ملاحظاته، لم يستطع مسامحة بارتوميو، وقد أطاح به بعدما طفح الكيل من تجاوزاته. (6)

كان ذلك المبدأ جليا حتى مع النجوم الذين كانوا أقل رتبة من ميسي؛ إذا دخلت الموهبة في صراع مع المدرب أو النادي، فإن اللاعب يفوز. لا يُصدِّق المشجعون ذلك عادة ويُصابون بالدهشة، فهم ما زالوا يتصوَّرون أن المدرب يأمر لاعبيه مثل “الجنرالات” القدامى أمثال؛ رينوس ميشيلز أو إرنست هابيل أو أليكس فيرغسون. لكن المدرب مفتول العضلات الذي يحاول كسر إرادة كبار اللاعبين المعاصرين، أو تحفيزهم بيد ثقيلة، سوف يخسرهم على الأغلب حتى لو لم يقصد ذلك.

 

خضوعا لمفهوم الوفرة والنُّدرة، تخلَّت الأندية عن الوهم القائل بقدرتها على فرض إرادتها على لاعبيها متعددي الجنسيات، والأثرياء للغاية، الذين لا يمكن تعويضهم تقريبا، والذين عادة ما يتسمون بغرور كبير ويحظون بالمساندة من وكيل ماكر وصحفيين محبوبين. في مجال يدور فيه كل شيء حول الموهبة، لا مفر من أن تسود وتحكم. المدربون أكثر وفرة لذلك هم أكثر قابلية للانتقال والرحيل من اللاعبين الكبار، وإلا فأين يمكن العثور على ميسي جديد؟!

 

عُدنا

والآن ماذا؟ من الواضح أن هناك استنتاجا مهما؛ برشلونة الحالي لم يعد الرقم واحد، ولا اثنين، ولا حتى خمسة. لقد تراجع النادي كثيرا، وأصبح في الوضعية المُثلى للعمل، تلك التي يظن كوبر أن كرويف كان ليستمتع بها كثيرا لو كان حاضرا. كرويف كان ليقول: “لقد حان وقت التفكير، لأنه عندما يكون لديك ميسي فإنك تتوقف عن التفكير، الآن عليك إعادة الابتكار”، دائما ما رأى كرويف ذلك مثيرا للغاية، لأن عليك التفكير في كل شيء من الصفر مرة أخرى. كان ليُحب ذلك.

المفارقة أن تلك الوضعية كانت شرارة البداية، حيث لم يكن برشلونة رائدا للكرة الإسبانية، ومن هنا كان عليهم العمل؛ بداية من البذور المُبكرة لفلسفة الكرة الشاملة التي نقلها رينوس ميتشيلز للنادي ثم رسَّخها يوهان كرويف، مرورا بتصميم منهجية الأكاديمية بناء على معايير تقنية محددة ومرجعيات مبتكرة ومفاهيم ذكية حد التعقيد، كانت اختراعا حينها، وقد نبتت البذور وتُوِّجت تلك المساعي وصنعت نموذج برشلونة الحديث بأفكار كرويف والإنتاجات الفريدة للأكاديمية، ثم جاءت الإيرادات غير المسبوقة والمداخيل القياسية القادمة من تذاكر الدخول، وحقوق البث، وعقود الرعاية، والترويج، إلخ. كل ما يُمكن أن يُباع قد بيع بسبب النجاح الرياضي للفريق.

 

يواجه الرئيس خوان لابورتا الآن مشكلة أكثر جوهرية بجانب أزمة الديون: من غير الواضح كيف يمكن للنادي العودة إلى القمة مرة أخرى والمكوث هناك، مثل أي رائد في أي صناعة، لا يكون الرقم واحد فقط أقل إبداعا من المُطاردين، لكن يتعرَّض النموذج الخاص به أيضا للنسخ والتقليد، وهو تماما ما حدث لبرشلونة؛ إذ أصبحت إسهامات يوهان كرويف شائعة في كل مكان، حيث تلعب العديد من الأندية الآن كرة قدم هجومية قائمة على مرجعيات ومفاهيم برشلونة أفضل بكثير من برشلونة نفسه.

 

كما تم تقليد ونحت نماذج للاماسيا من كل أندية أوروبا، حيث يقوم الجميع باستثمارات طويلة الأجل في الأكاديميات الخاصة بهم، ما يعني أنه بشكل أو بآخر لم يعد لدى برشلونة نقطة بيع فريدة كالسابق، خاصة بعد رحيل ميسي، ولا يوجد سبب لافتراض أن النادي سيصبح عما قريب الأكثر تقدُّما مرة أخرى، ربما تفرُّد نموذج برشلونة أصبح من الماضي، هذا ما يبدو عليه الأمر، لكنَّ المديرين الحاليين يعملون على الترويج لمشروعين بالتوازي؛ المشروع الأول هو “Dream Teen” نسبة للجيل الشاب اللافت من خريجي الأكاديمية الذين يُمثِّلون القطاع الأكبر من الفريق الأول حاليا، والمشروع الآخر هو الفريق النسائي الذي يُعَدُّ بمنزلة ثورة في كرة القدم النسائية، حيث يُصنِّفه التقنيون بأنه أفضل فريق كرة نسائية على الإطلاق.

يعمل النادي خلال الفترة الحالية على الارتكاز على تلك المشاريع للنهوض، لكن لن ينجح الأمر بدون النجاح الرياضي، وهنا يكمن الانفصام بين الإدارة العُليا والمدرب (السابق) رونالد كومان، إذ يملك كلٌّ منهما اعتقادات مختلفة؛ تعتقد الإدارة أن الفريق الحالي قادر على المنافسة والنجاح بما يملك، بينما يرى الهولندي العنيد أن ذلك غير ممكن بعد رحيل ميسي، وأن الفريق بحاجة إلى مزيد من الوقت ومزيد من اللاعبين للاتزان ومن ثم العودة للمنافسة، الأمر الذي يصطدم بتصورات الإدارة المدفوعة بضغط الحسابات المالية بسبب فاتورة الديون والركود المالي. لذا، كان من الطبيعي أن يرحل كومان في النهاية، لأن الطرفين لن يستطيعا السير برؤى غير مُتسقة، وسيكون على البارسا اتخاذ القرار الأهم لحاضر ومستقبل النادي؛ اختيار المدرب الجديد.

 

البحث عن مُخرِج

“فيلم بممثلين عظماء لا يمكن لأحد ضمان نجاحه، لكن إذا كان هناك مُخرج عظيم فإن النجاح سيكون مسألة وقت”، هكذا اعتقد دائما أريغو ساكي. لكن الفكرة أن وضوح الاعتقاد لا يجعل العملية سهلة، فقد أصبحت عملية اختيار المخرج أكثر تعقيدا من ذي قبل نظرا لتعدُّد مواضع التقييم، التي لم تعد مقتصرة على الأحكام المُعلَّبة التي تُصنِّف المدرب بإذا ما كان يلعب كرة هجومية أم دفاعية. لقد ولَّى ذلك الزمن، وأصبحت عملية اختيار المدرب لا تقل في تعقيداتها عن اختيار شريك الحياة.

 

وفقا لـ “حسن بلتاجي”، محلل المنتخب الألماني، فإن عملية اختيار المدرب ترتكز على عدة مرجعيات، صحيح أنها تختلف من نادٍ إلى آخر، لكن يسعنا هنا ذكر الإطار العام، الذي يتكوَّن من:

  • “فلسفة المدرب” ومدى اتساقها مع تلك الخاصة بالنادي، فلا يمكن أن تكون برشلونة وتذهب للتواصل مع خوسيه بوردالاس مثلا.
  • “أهداف النادي”: في بارسا الأهداف واضحة؛ يريد النادي بناء فريق تنافسي للعودة للقمة من جديد والفوز بالبطولات الكبرى.
  • “اللاعبين المتاحين”: هل هم مناسبون للأسلوب؟ المراكز القوية؟ المراكز التي تحتاج إلى تدعيم؟ وانعكاس ذلك على هوية المدرب.
  • “قدرة المدرب على تطوير اللاعبين”: وهو أمر حاسم إذا كان النادي يملك تشكيلة شابة مثل التي يملكها بارسا حاليا.
  • “المستوى التكتيكي للمدرب”: قوة أسلوب اللعب ومدى إجادته لمراحل اللعب كافة، خاصة مراحل الحيازة حيث يقضي الفريق معظم أوقاته داخل المستطيل الأخضر.
  • “قدرة المدرب على التعامل مع غرفة الملابس”: من المهم جمع التفاصيل كافة عن الأسلوب الإداري للمدرب ومدى توافقه مع نوعية اللاعبين وخصائصهم الشخصية وسيرتهم الذاتية.
  • “التعامل مع الإعلام”. (7)

 

بعد جمع المعلومات اللازمة، يُحدِّد المدير الرياضي الأولويات من خلال تصنيف الضروريات والمُفضلات، بالنسبة للبارسا، فمن الضروري أن يتمتع مدرب الفريق القادم بالاتساق التام مع فلسفة النادي، لأن اختيار كومان من الأساس كان يحمل علامات استفهام في هذا الصدد. من الضروري أيضا إجادته لمراحل اللعب كافة وعدم اختزاله اللعبة في مراحل دون غيرها، أو تَدَّنيه في عدد من المراحل، كما يبدو مع الفريق حاليا حيث يظهر ضعف واضح في المراحل الدفاعية كافة. من الضروري كذلك أن يتسم بقدرات واسعة في تطوير اللاعبين، إذ ينتظر النادي تحديا جليا يكمن في مساعدة قوام الفريق الشاب على الانتقال إلى المستوى التالي والنمو داخل الإطار الجماعي واستيعاب قيم الفريق.

لا يُشترط أن تنطبق على المدرب شخصيا الشروط كافة، لكن يمكن أن يُعزِّزه الكادر الفني في مناطق ضعفه حتى تكتمل الصورة، كما أن نوعية اللاعبين المتاحين وكفاءتهم من الممكن أن تساعد المدرب داخل الملعب أو خارجه، فعلى سبيل المثال، حينما تملك بوسكيتس وبيدري وفرينكي دي يونج، لن تبذل مجهودات عظيمة خلال التدريبات في العمل على مرحلتَيْ بناء اللعب والتدرُّج بالكرة، بينما إذا كنت لا تملك مهاجما فهنا يكون القدر الأكبر من العمل، حيث يجب أن يعمل المدرب كثيرا على مراحل الإنهاء وكيفية تعويض ذلك النقص. كما أن وجود قادة حقيقيين داخل الفريق يُسهِّل كثيرا على المدرب قيادة المجموعة وتوحيد الصفوف داخل الغرف المغلقة.

 

وفقا لما تناولناه، لا أعتقد أنك تشعر بوفرة عند إسقاط تلك المعايير على الأسماء المتاحة، خاصة في منتصف الموسم، حيث يُفضِّل الجميع الوفاء بالتزاماته الحالية وإكمال ما بدأه، وحتى بنهاية الموسم لن نجد قائمة طويلة، بالكاد قد تجتهد في إيجاد 3-5 أسماء مُتمثِّلين في لويس إنريكي إذا كان متاحا بعد المونديال، وإيريك تين هاخ في حالة قرَّر إنهاء وقته في أمستردام، وتشافي هيرنانديز الذي لا يُقنع الإدارة لضعف سيرته الذاتية، حيث لم يسعَ للتعبير عن نفسه خارج حدود قطر، لكن قيمته بوصفه قائدا سابقا للنادي تزن الكفة، وربما يمكن إدراج مارسيلو غاياردو الذي يُقدِّره التقنيون في بارسا كثيرا.

أخيرا، يجب ألا ننسى أنه لكي يُصيب الاختيار، فيجب أن تكون الأُسس سليمة، وأن يكون لدى النادي إدارة عُليا ومن ثم إدارة رياضية وفية تماما لقيمه، لأن أولئك الموجودين على أعلى الهرم الإداري هم المسؤولون عن التأطير وتوضيح المرجعيات مما يُسهِّل نسبيا تعقيد عملية اتخاذ القرار، في الواقع، بارسا لم يعد لديه خيار آخر سوى العمل على استعادة هويته والوفاء لتقاليده؛ فقد رحل ليوناردو، وشاخ الجيل الذهبي، وغرقت المؤسسة في تكبُّد الخسائر الرياضية والمالية، وما كان ذلك ليحدث لو كان النادي مُتسقا مع النموذج الخاص به، ذلك الذي سمح للمُديرين قبل 13 عاما بالمخاطرة بتعيين مدرب غير معروف لأن أكبر مزاياه كانت اتساقه مع نموذج النادي، مع مصاحبة ذلك لتوافق جميع الطبقات الإدارية داخل النموذج، وكانت النتيجة هي تُحفة القرن الحادي والعشرين التي غيَّرت خريطة الكرة في العالم أجمع.

 

في الوقت نفسه، يجب ألا نقع في الفخ القائل إن ذلك قابل للتكرار بمجرد اتساق النادي مع هويته، لأن تلك الحقبة كانت استثناء جليا، ومن المعروف أن الاستثناءات لا يمكن القياس عليها، كما أنها نادرة التكرار، لكن على الأقل يمكن للنادي العودة للمنافسة في المستوى العالي، إذ إن الحديث هنا عن العملية التي مهَّدت لذلك النجاح قبل أن يصبح استثناء.

———————————————————————————–

المصادر

  1. الحملة الإعلانية الخاصة بشركة “آفيس”
  2. كتاب سايمون كوبر
  3. أرقام ليونيل ميسي خلال مسيرته مع برشلونة
  4. تصريح جيرارد بيكيه
  5. استنتاجات سايمون كوبر خلال كتابة كتابه الخاص بنادي برشلونة
  6. تصريحات العاملين في نادي برشلونة نقلا عن سايمون كوبر
  7. مرجعيات اختيار المدير الفني وفقا لحسن بلتاجي محلل منتخب ألمانيا 1 2
المصدر : الجزيرة

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى