د. الشاذلي عبداللطيف يكتب: في ذكرى الاستقلال: حين ينهض الوطن من بين الركام ويولد الأمل من جديد

د. الشاذلي عبداللطيف يكتب: في ذكرى الاستقلال: حين ينهض الوطن من بين الركام ويولد الأمل من جديد
في كل عامٍ، حين يأتي الأول من يناير، لا يزورنا التاريخ بصفته ذكرى جامدة، بل يعود إلينا كصوتٍ حيٍّ من عمق الوجدان، يذكّرنا بأن هذا الوطن وُلد من رحم الإرادة لا من منحة الآخرين. الاستقلال ليس يوماً نُعلّق فيه الأعلام فحسب، بل وعدٌ نُجدده مع أنفسنا بألّا نسمح لليأس أن ينتصر، ولا للفوضى أن تسرق اسم الدولة من بين أيدينا.
اليوم، والسودان يواجه أعقد فصول تاريخه، يعود السؤال
الكبير من جديد: هل ما زال فينا ما يكفي من الإيمان لنحمل راية الدولة، لا السلاح؟ وهل نستطيع أن نحمي فكرة السودان من أن تُختطف باسم العدل أو الثورة أو القبيلة؟
رغم الجراح والخذلان، هناك ما يستحق الفخر. فالعالم الذي صمت طويلاً، بدأ أخيرًا يرى الصورة كما هي: دولةٌ تُقاتل لتبقى، وجيشٌ يحمي وحدة ترابها، وشعبٌ لم يفقد صبره ولا كرامته. داخل مجلس الأمن، سقطت لغة المساومة الرمادية، وبدأت الكلمات تميل نحو الوضوح والحق.
الولايات المتحدة أدانت الانتهاكات بوضوح، والصين وقفت إلى جانب وحدة السودان وشرعيته، وروسيا رفضت أي مسعى لتفكيك الجيش أو شرعنة المليشيات. باكستان وصفت القتلة بما هم عليه: منتهكون لحرمة الإنسان. الدنمارك واليونان تحدثتا عن النساء اللواتي دُفنّ تحت صمت العالم، وكوريا الجنوبية قالتها بصدق: لا حلّ خارج مؤسسات الدولة.
ومن بين هذا الزحام، أشرقت ملامح حكومة الأمل كنافذة جديدة وسط دخان الحرب. لم تأتِ لتعيد الخطاب القديم، بل لتقول إن الدولة يمكن أن تتنفس من جديد، وإن السياسة ليست نقيض الكرامة، وإن المدنيّة لا تعني الضعف بل المسؤولية. جاءت لتعلن أن الأمل ليس شعارًا، بل منهجٌ لبناء الثقة من تحت الرماد، وأن السودان لا يزال قادرًا على النهوض إذا توحدت الإرادة حول دولة واحدة وجيش واحد وقرار وطني لا يُشترى ولا يُفرض.
لقد أدرك العالم، أخيرًا، أن السودان ليس مجرد مساحة على الخريطة، بل وجدانٌ يرفض الانكسار. مصر أكدت أن أمن السودان جزء من أمنها القومي، والسعودية شددت على أن الحل يجب أن يكون سودانيًا خالصًا، والإمارات وقطر والبحرين والأردن عبّرت عن دعمها لوحدة البلاد واستقرارها. العالم لم يصطف مع طرف، بل مع الفكرة التي لا تموت: فكرة الدولة.
إنّ هذه اللحظة ليست للاحتفال فحسب، بل للمراجعة. يجب أن نعيد بناء خطابٍ وطنيٍ جامع، لا يُقصي أحدًا، ولا يتنازل عن حقٍ، ولا يساوم على دمٍ. يجب أن نفهم أن العدل لا يعني الانتقام، وأن الحسم لا يعني القسوة، وأن الدولة القوية لا تُدار بالصوت العالي، بل بالعقل الهادئ والقرار العادل.
يا أبناء السودان…
الاستقلال ليس ماضينا، بل مستقبلنا الذي لم يكتمل بعد. هو اللحظة التي نقرر فيها أن نبني لا أن نلوم، أن نغفر دون أن ننسى، وأن نحيا من أجل وطنٍ يستحق الحياة. السودان الذي قاتل وحده، وصمد وحده، يستحق أن نحميه جميعًا. فلنرفع راية الدولة من جديد، لا لتخفق في السماء فحسب، بل لتخفق في القلوب أيضًا.
هكذا يكون الاستقلال فعل حياة لا ذكرى عابرة، وهكذا يولد الوطن كل مرة من بين الرماد، أقوى، أنقى، وأكثر إصرارًا على أن يعيش بكرامة وأمل.





