مقالات

صديق البادي يكتب: ادركوا مشروع الجزيرة بانتشاله من حالة التردي والضياع

صديق البادي يكتب: ادركوا مشروع الجزيرة بانتشاله من حالة التردي والضياع

 

الجزيرة منذ عقود وقرون خلت من الزمان قبل قيام المشروع كانت سهلاً منبسطاً فيه استقرار وحياة آمنة مطمئنة وقرى ثابتة عريقة وعلى سبيل المثال فقد التقى جيشا عمارة دنقس وعبد الله جماع في قرية أربجي واتجه جيشهما الموحد نحو سوبا وأسقطها وهذا يؤكد أن تأسيس أربجي سبق قيام السلطنة الزرقاء (1504-1821م) وينطبق تاريخ تأسيسها القديم منذ ذلك الزمان على قرى عريقة كثيرة بالجزيرة وورد ذكر عدد منها في كتاب طبقات ود

ضيف الله. وكان سكانها يعتمدون في معيشتهم على الزراعة المطرية بمحاصيلها المتنوعة وعلى رأسها الذرة وتربية المواشي والدواجن ولهم آبار وحفائر متسعة لحفظ المياه طول العام وكانوا يزرعون القطن المطري مع وجود مغازل ومناسج يدوية وكانوا يطبقون عملياً مقولة (نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع) ويصدرون الفائض من المنسوجات لأثيوبيا ويقومون بعملية تبادل سلعي. وكانت توجد خلاوي لتلاوة وحفظ القرآن الكريم وحلقات للفقه وذهب منهم عدد كبير في أزمان مختلفة وألتحقوا بالأزهر الشريف ودرسوا فيه وكان يضمهم الرواق السناري.

وبعد قيام مشروع الجزيرة أقيم بعده بسنوات امتداد المناقل وأضحى جزءً منه. ومشروع الجزيرة هو أكبر مشروع مروي في أفريقيا ومن أكبر المشاريع الزراعية في العالم (مليوني فدان) ويؤكد فطاحلة خبراء الري في إفادات مكتوبة وموثقة أن نظام الري في مشروع الجزيرة يعتبر من أفضل نظم الري في العالم ويتم الري الانسيابي بسهولة ويسر وتم تخطيطه بدقة وتنفيذه بطريقة متقنة دقيقة مع متابعة واهتمام بالقنوات ونظافتها لتنساب المياه بسهولة حتى تصل الحواشات وكانت الترع تنظف بما كانت تسمى الكراكة أم دلو لعدم وجود الآليات السريعة المتطورة في ذلك الوقت وكان العمل بطيئاً بالكراكة ولكنه كان متقناً يدل على الهمة العالية والحزم والعزم. وكان القائمون على الري يراقبون المياه ويقيسون بالسنتمتر زيادتها أو نقصانها وكان بكل مكتب تحت إدارة الباشمفتش ورئاسته باشخفير يرأس

عدداً من الخفراء موزعين على الترع والقناطر ولهم زيهم العملي المميز ويقيمون وأسرهم في منازل في القناطر ولهم دواب يتحركون بها ويصرف لهم (بدل عليقة) وهم يوزعون المياه ويضبطونها ضبطاًً محكماً ويؤدون عملاً مهماً ولهم مفاتيح لفتح وقفل الأبواب في قنوات المياه وبكل أسف فقد أنهيت خدمات جميع الخفراء وأخذت كثير من الأبواب في القنوات تخلع نهاراً جهاراً في ظل عدم وجود رقيب وحسيب وبكل أسف فإن الإهمال وعدم الاهتمام أدى لأن تمتلئ جل القنوات بالطمي والحشائش. والمياه متوفرة ولكن وصولها للحواشات متعثر وينتج عنه في مناطق كثيرة

عطش (كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول) ومع ذلك فقد أثقلت كواهل المزارعين بالضرائب.
وكان بالجزيرة نظام إداري ممتاز فيه دقة وانضباط من قمة الهرم في بركات وعلى رأسه المحافظ ويليه المدير الزراعي وكافة الإدارات والأقسام الزراعية ومكاتب التفاتيش مع وجود نظام محاسبي دقيق وكل مكتب تفتيش كان فيه مخزن كبير يحوي المدخلات الزراعية التي توزع على المزارعين في الوقت المناسب قبل أن يحين موعد

 

استعمالها مع مراقبة وانضباط في كل مراحل نمو المحاصيل حتى مرحلة الحصاد (والزراعة مواعيد كما كانوا يقولون) وكان مفتشو الغيط يستعملون عربات المورس في تحركاتهم وتصريف أعمالهم. وعائدات مبيعات القطن طويل التيلة الذي يصدر من مشروع الجزيرة كان هو العمود الفقري للميزانية العامة والرافد الأول لخزينة الدولة بالعملات الحرة والعملات المحلية وكانت الحكومة تعتمد على عائدات مبيعات القطن في سد النقص الكبير في الفصل الأول المتعلق بالمرتبات مع المساهمة الفاعلة في الخدمات والتنمية بكافة أرجاء القطر لأن الحكومة على المستوى

المركزي تأخذ نسبة كبيرة من أرباح القطن مع تخصيص 2% من الأرباح للخدمات الاجتماعية بمشروع الجزيرة وامتداد المناقل. وعندما أعلن وقاد الرئيس جعفر نميري حملة محاربة العطش في دارفور وجدت تجاوباً ودعماً محلياً وعالمياً منقطع النظير ونجحت تماماً في استئصال تلك المعضلة وأُعلن أن مشروع الجزيرة بما خصم من أرباح ذلك العام وبما تبرع به المزارعون وخصم من مستحقاتهم كان على رأس الداعمين لتلك الحملة الناجحة. وكان الشريف حسين الهندي وزير المالية في عهد الديمقراطية الثانية يعتمد على عائدات مبيعات القطن في تسيير الميزانية ويستدين لسد العجز أثناء العام المالي بضمانات يستند فيها

على رهن العائد من تلك المبيعات ولذلك كان يتجول في المشروع باللاندروفر في زيارات عمل ميدانية ليس فيها استقبالات وحشود ومظاهر احتفالية وإعلام مصاحب وصخب ويبرر ذلك بأنه لم يحضر لحفل عرس بل أتى في جولة ميدانية عملية.

وكان يعين في المشروع أفضل الإداريين في المواقع القيادية وأكثرهم خبرة وتأهيلاً وعلى سبيل المثال فقد كان أول محافظ سوداني للمشروع بعد السودنة هو السيد مكي عباس الذي عمل بعد ذلك في المنظمات الدولية وأصبح نائب همرشولد السكرتير العام للأمم المتحدة وعندما مات همرشولد في حادثة تحطم طائرة في الكنغو في عام 1961م كان من أقوى المرشحين لخلافته في منصب السكرتير العام للأمم المتحدة السيد مكي عباس وحدث تأخير في إرسال تزكية ترشيحه من حكومة السودان ولذلك أُختير الثاني الذي كان يليه في المنافسة وهو أوثانت.

وأختير بعد ذلك السيد مكاوي سليمان أكرت وكيل وزارة الداخلية وعميد الخدمة المدنية في موقع محافظ مشروع الجزيرة وتوالى بعد ذلك اختيار أفضل العناصر وأقواها لتولي منصب محافظ المشروع في عصره الذهبي الزاهي وكان محافظ مشروع الجزيرة ينال أعلى مرتب في الدولة بعد الرئيس إبراهيم عبود. وبعد إنتهاء فترة تكليف الأستاذ سر الختم الخليفة رئيس الوزراء في حكومتي أكتوبر الأولى والثانية أرادوا تكريمه وعرضوا عليه أعلى منصب وهو محافظ مشروع الجزيرة ولكنه آثر أن يعمل سفيراً بوزارة الخارجية خارج السودان… وبكل أسف فقد شهد المشروع في سنوات تيهه شداً وجذباً وصراعاً وحرباً باردة حول المواقع القيادية العليا وهذا أمر لا يهم المزارعين والمنتجين ولا ناقة لهم فيه ولا جمل.

وكان مشروع الجزيرة في عصره الذهبي هو مفخرة السودان ودرة عقده وكل زائر كبير للسودان من الملوك ورؤساء الدول يوضع في برنامجه زيارة رئاسة مشروع الجزيرة ببركات وزارت المشروع الملكة اليزابيث والرؤساء عبد الناصر وتيتو وبرزنيف ونكروما ونيكسون عندما كان نائباً للرئيس ايزنهاور و… الخ.

وبلا سابق انزار ومقدمات حدث تسونامي وزلزال عنيف وتدمير وتحطيم متعمد لمشروع الجزيرة خطط له ونفذه من لا علاقة لهم بمشروع الجزيرة ولا يعرفون عنه كثير شئ أو قليله وربما كان لهم أهل ومعارف يعملون فيه خفراء أو في الأسواق وبحكم السلطة والسطوة التي كانت لديهم اعتبروا مشروع الجزيرة صنم يجب تحطيمه وأكثروا في تصريحاتهم من الهجوم عليه وكالثور في مستودع الخزف قاموا بعملية تحطيمه وفي زمن قياسي أصبحت المكاتب والسرايات وسكك حديد الجزيرة والهندسة الزراعية و… الخ خرابات ينعق فيها البوم وانهار النظام الإداري في مشروع الجزيرة.

وقصة تحطيم مشروع الجزيرة قصة طويلة فصولها مثيرة والذين قاموا بهذا التخطيط السقيم العقيم بكل عنجهية وغطرسة سلطوية فقدوا الأصيل قبل أن يجدوا البديل وفشلت مساعيهم في إيجاد تعاقدات ومشاركات خارجية لاستثمارات ضخمة في المشروع تجلب أموالاً طائلة كالمطر المنهمر كما كانوا يتوقعون ولم يجدوا إلا السراب وماء الرهاب. والقطن طويل التيلة فقد الاقبال عليه وتميزه عالمياً ولم يعد هو صمام الأمان كما كان يحدث في الماضي وكان لابد من التخطيط الهادئ الرزين لإيجاد بدائل قبل أن يقوموا بعملية تحطيم المشروع الذي مر بفترة ومرحلة تيه وأصبح مجهول الهوية وفي منزلة بين المنزلتين فلا هو قومي ولا

هو ولائي وأصبح حاله كحال دامر المجذوب كما وصفها الشاعر توفيق صالح جبريل (أيا دامر المجذوب لا أنت بادية بداوتها تبدو ولا أنت بندر) وكان المزارعون والمنتجون أصحاب الحق الأصيل بعيدين كل البعد عن كل ما جرى وبكل أسف فإن ما كان يسمى إتحاد المزارعين في مرحلة تيه المشروع هو مجرد أداة طيعة عند السلطات الحاكمة على المستوى الإتحادي والولائي ويدين بالولاء والطاعة ويبصم بالأصابع العشرة على ما يُقره التنظيم الحاكم وحلقاته الضيقة. ومن جانب آخر ظهرت تنظيمات عديدة بمسميات مختلفة وهي الآن مجرد لافتات ومن حق أي فرد أن يتحدث باسمه ويعبر عن رؤاه أو باسم أي تنظيم له

عضوية مسجلة معروفة حتى لو كان عددها ضئيلاً ولكن لا يحق لهم التحدث باسم قواعد المزارعين العريضة وفرض وصايتهم عليها دون تفويض منها ولا ينكر أحد أن لبعضهم كأفراد قيمة ووزن شخصي. وقواعد المزارعين العريضة كانت تقع بين المطرقة والسندان وبين إتحاد كنمر من ورق وبين تنظيمات وهمية وموهومة ودار بينهما شد وجذب وخلاف حول قانون 2005م تعديل عام 2014م وليت ما دار بينهما كان فيه أخذ ورد موضوعي وجاد حول الأثر والواقع الفعلي المتعلق بالزراعة والإنتاج ولكن ما دار بينهما

كان تهريجاً سياسياً وصراعاً بين مؤيدي الحكومة والمنتمين للمعارضة لا علاقة له بالحواشات والتقنت وأبعشرين وقواعد المزارعين كان يهمها المحتوى والوقوف على ماله وما عليه بعد تطبيقه ولا يهمهم إذا كان اسمه قانون 2005م أو 2005 قبل الميلاد وصديقي الأستاذ أحمد المصطفى إبراهيم وهو مزارع وأستاذ رياضيات وحاسوب بارع وكاتب صحفي معروف أجرى قبل سنوات دراسة بعيداً عن عالم ساس يسوس عن حرية المزارعين في اختيار ما يزرعونه من محاصيل رغم ما يعانونه من بعض النواقص التي ذكرها مثل اضطرارهم أحياناً لشراء الوقود والمدخلات الزراعية

من السوق الأسود والشكوى أحياناً من معاناة بعضهم في الري (قبل أن تصل الأحوال في القنوات للوضع الردي الذي بلغته الآن) ووصل بالأرقام لنتيجة مفادها أن أوضاع المزارعين المالية صارت أفضل نسبياً مما كانت عليه وأورد أدلة على ذلك وأورد أيضاً ما يؤخذ على تلك التجربة من مآخذ للخروج برؤية لإصلاحها.

والآن توجد في رئاسة إدارة المشروع ببركات صورة كبيرة معلقة في المدخل خارج المكاتب تضم السيد رئيس مجلس السيادة والسيد محافظ مشروع الجزيرة وبجانبها صورة أخرى بنفس الحجم الكبير معلقة قربها وتضم السيد رئيس مجلس الوزراء والسيد محافظ مشروع الجزيرة وبكل تأكيد ان رئيس الدولة ورئيس الجهاز التنفيذي تقع عليهما المسؤولية الكلية في كافة المجالات وكل الشؤون الداخلية والخارجية ولكن لا يمكن أن يلم كل منهما بالتفاصيل وتفاصيل المتعلقة بكل الوزارات والوحدات والمصالح وتبعاً لذلك فإنهما لا يمكن أن يلما بكل شئ في لقاء هنا أو لقاء هناك وتكون هذه اللقاءات لطرح قضايا محددة. والسيد

 

وزير الزراعة الإتحادي هو المسؤول عن القطاعين المروي والمطري ولأن مشروع الجزيرة وامتداد المناقل هو شيخ المشاريع المروية في السودان ويمر بحالة استثنائية فالأمل أن يكلف تكليفاً مباشراً من رئيس الدولة ورئيس الجهاز التنفيذي ليرفع لهما تقريراً واقعياً بعد أن يقف ميدانياً على ما يحدث في المشروع وهذا يتطلب منه أن يُكون خلفية وافية كافية بقراءة كل ما كتب عن تأسيس المشروع وتاريخه والمراحل التي مر بها وأن يقف على تاريخ حركة

المزارعين في المشروع… الخ وعليه أن يقضي اسبوعين بالجزيرة على الأقل وتهيأ له كل المعينات والتسهيلات بما فيها تخصيص طائرة هيلوكوبتر ليتجول بها ميدانياً في كل أرجاء المشروع وأقسامه ويقف بنفسه على التحطيم والتدمير الذي حدث في المكاتب والسرايات والقناطر … الخ والحالة المزرية في القنوات التي امتلأت بالطمي والحشائش.

وتبعية الري هنا أو هناك لا تمثل معضلة ولكن المعضلة الحقيقية في امتلاء القنوات بالحشائش والطمي والماء متوفر ويمكن لوزارة الري أن تقوم بضخه ولكن المعضلة في توصيله للحواشات وهذه هي مهمة إدارة الري التي أقيمت مؤخراً تحت إدارة مشروع الجزيرة. ومعالجة مشكلات الري تتطلب إيجاد ميزانية كافية وافية ولو بالحصول على قرض حسن أو بتعاقدات مع شركات غنية ومقتدرة يقع عليها الاختيار بعد إجراء عطاءات ومناقصات تحت إشراف لجنة

عليا لتتم وفق ذلك مشاركات زكية في الزراعة بشروط معلومة ولأمد محدد. وعلى وزير الزراعة في جولاته المرتقبة أن يلتقي بالمزارعين في لقاءات مفتوحة يتم فيها الأخذ والرد بكل موضوعية وبلا تهريج سياسي والغرض هو التوصل للمعالجات الناجعة وعليه أيضاً عقد لقاءات مع العاملين بالمشروع .. (المديرين في الأقسام والباشمفتشين في المكاتب وكافة الموظفين والعمال وكافة العاملين) فهم قد ضحوا كثيراً ويعملون في ظروف بالغة السوء وبيئة طاردة وشروط خدمة مجحفة ويشهد لهم الجميع بأنهم قد

ضحوا كثيراً ومن الإنصاف أن نذكر أن عدداً من رؤساء الإدارات والعاملين برئاسة المشروع يؤدون عملهم بمهنية واقتدار. ومن الأشياء التي ينبغي أن تطرح بوضوح هو موضوع مافيا المدخلات الزراعية التي ابتلي بها المزارعون والمنتجون وعليه أيضاً البحث والتقصي في غير ذلك من المواضيع والأجندة الأخرى … ورفع تقرير لرئيس الدولة ورئيس الجهاز التنفيذي لوضع المعالجات العاجلة الناجزة. والمشروع الآن يعيش في حالة توهان وفقدان للبوصلة وأوضاعه قبل الحرب اللعينة لم تكن على ما يرام ولا يمكن أن تصبح مشجباً تعلق عليه كل الأخطاء التي حدثت في المشروع في الفترة السابقة.

وتأتي بعد ذلك المرحلة الثانية بوضع خطة متكاملة لمستقبل المشروع يقوم بإعدادها الخبراء والمختصون وأهل الشأن ليعود المشروع كما كان بل أحسن مما كان ويصبح مثل طائر الفينيق كما تقول الأسطورة الاغريقية القديمة الذي كان قوياً وضعف واحترق وقام ونهض بعد احتراقه مرة أخرى أكثر قوة وفتوة مما كان عليه في الماضي…

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى