مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما الشفرة الوراثية (الحمض النووي – DNA) ? (10 من 10) الآية الكبرى: حين يتكلم الخلق… ويشهد العلم

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما الشفرة الوراثية (الحمض النووي – DNA) ? (10 من 10) الآية الكبرى: حين يتكلم الخلق… ويشهد العلم

 

 

هكذا نصل إلى نهاية الرحلة التي ابتدأت من خيطٍ متناهي الصغر، فإذا بها تكشف للإنسان أوسع أبواب التأمل في الخلق، وتفتح أمامه نافذة على سرّ الوجود كله. بدأنا من جزيء لا يُرى، فإذا به يحمل خريطة الإنسان، وذاكرته، وتاريخه، ولغته، وعمره، ومرضه، وصحته، بل ويحمل أيضًا الدليل الجوهري على أن هذا الكون لم يُخلق صدفة، وأن الحياة ليست نتاج مادة بكماء، بل كتابة مقصودة، وإحكامًا دقيقًا، وهداية ربانية تسري في كل خلية.

فالـDNA ليس خيطًا كيميائيًا، بل «نصٌّ» مكتوب، و«برنامج» مُهندس، و«لغة» ذات قواعد واشتقاقات، نُسخت بدقة مذهلة في كل خلية. وكل خلية — مهما صغرت — تحمل كتابًا كاملًا في داخلها، محفوظًا، منسّقًا، قابلًا للقراءة، قادرًا على النسخ، محاطًا بآليات تصحيح وتعديل وإدارة وتواصل واستجابة. ولو اجتمعت أرقى عقول البشر لصنع نظام مماثل، لما استطاعت أن تقترب من جزء يسير من هذا الإتقان.

ولم يكن هذا النظام أحادي الطبقة؛ فقد رأينا أن فوق الشفرة شفرة أخرى: «المنظومة فوق الجينية» التي تشغّل الجينات وتطفئها، وتحدد وظيفة الخلية وهويتها وحدودها. ورأينا كيف تحمل الخلايا «ذاكرة» تحفظ آثار التجارب، وكيف تنقل الأجيال خبرة السنين دون أن يتغير حرف واحد من النص الأصلي. ورأينا كيف تتحدث الخلايا عبر لغة خفية، وكيف تبني من جسد الإنسان «أمة خلوية» متناسقة تتحرك بإشارات لا يسمعها أحد.

ثم رأينا منظومة المناعة: جيشًا كاملًا داخل الجسد، يعرف عدوه وصديقه، يحقق ويستطلع ويقاتل ويضحي، ويحفظ بقاء الإنسان دون أن يشعر. ورأينا ورش الإصلاح التي تعمل بلا توقف، ترمّم الشفرة، وتصحح النسخ، وتعيد تشكيل البروتينات، وتفكّك الفاسد وتعيد بناء السليم، في مشهد من الرحمة الإلهية التي تجري داخل كل خلية.

وحين اجتمعت هذه الأنظمة كلها — القراءة، والترجمة، والتمييز، والاتصال، والمناعة، والإصلاح — تكشفت الحقيقة الكبرى: أن الحياة ليست فوضى، وأن المادة وحدها لا تصنع هذا الإحكام، وأن الصدفة عاجزة عن كتابة جملة واحدة، فكيف تكتب كتابًا كاملًا يُقرأ ويُفهَم ويُراجَع ويُصلَح؟ وكيف للعشوائية أن تبني آليات مضادة للعشوائية؟ وكيف تُنشئ العبثية قوانين تمنع العبث؟

إن هذا التناسق العظيم من أدق خيط في الخلية إلى أعقد منظومة في الجسد هو نفسه الذي تتجلّى فيه الآية:
«سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق».

فالآفاق تكشف آيات الله في المجرات، والأنفس تكشف آياته في الشفرة، وخيط الحياة يتلقى الوحي الصامت ذاته: دقة، وإحكام، وهداية، وبرمجة، وميزان.

ولهذا فإن العلم الحقيقي — لا العلم المؤدلج — لا يقود إلا إلى الإيمان. وكل اكتشاف جديد يهدم فرضية من فرضيات الصدفة، ويضيف لبنة إلى بناء اليقين. ومن ينظر إلى لغة الـDNA، لا يحتاج إلى دليل آخر ليعلم أن وراء النظام منظِّمًا، ووراء الإبداع مبدعًا، ووراء الكتاب كاتبًا. وهذا هو معنى قوله تعالى: «الذي خلق فسوى، والذي قدّر فهدى»:

خلق الشفرة،

وسوى نظامها،

وقدّر وظائفها،

وهدى كل خلية إلى ما يجب أن تفعل.

وإذا تعلّم الإنسان من الخلية سرّ الهداية، تعلّم أيضًا سرّ البناء؛ فالأمم لا تنهض إلا بنظام يشبه دقة الخلق: نظام في الإدارة، وعدل في القانون، ورقمنة في الأداء، وتوزيع واضح للأدوار، وإصلاح مستمر يحفظ البناء من الانهيار. وكما تؤدي الخلايا وظائفها بتناغم، تنهض الأمم حين تتناغم مؤسساتها. وكما لا تترك الخلية خطأً بلا إصلاح، لا تنهض أمة تترك فسادها بلا معالجة.

وفي النهاية، لا يبقى للقلب إلا أن يقول ما يقوله العلم حين ينصف، والعقل حين يكتمل:
إن الخلق كتاب، وإن الـDNA آية، وإن الحياة شهادة، وإن الكون كله لا يقوم إلا بميزان الحق.

ومن عرف هذا الميزان أدرك أن الإيمان ليس خصومة مع العلم، بل ذروته، وأن العلم ليس طريقًا إلى الشك، بل جسرًا إلى اليقين. وأن أصغر خلية — حين تُقرأ بإنصاف — تفتح للإنسان بابًا واسعًا إلى الله.

وبهذا تُختتم الرحلة… من الخيط الذي لا يُرى إلى الحقيقة التي لا تُنكر، ومن الشيفرة الصغيرة إلى الكون الكبير، ومن الخلية الواحدة إلى الإيمان الذي يشمل الوجود كله.
رحلة تقول للإنسان:
إنك لست جسدًا فقط، بل معنى. ولست مادة فقط، بل روح. ولست صدفة، بل خلق. ولست عبثًا، بل مقصد. وجُعلتَ — أنت — دليلًا على ربك قبل أن تكون طالبًا للدليل.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى