د. الشاذلي عبداللطيف يكتب: .. ترانيم الظلم..من فوضى التعدد إلى وحدة الفكرة: دعوة لدمج الأحزاب وإنقاذ المعنى الوطني

د. الشاذلي عبداللطيف يكتب: .. ترانيم الظلم..من فوضى التعدد إلى وحدة الفكرة: دعوة لدمج الأحزاب وإنقاذ المعنى الوطني
ليست أزمة السياسة في بلادنا أزمة غياب، بل أزمة ازدحام.
ازدحام في اللافتات، في الأسماء، في الشعارات، حتى بات المشهد الحزبي أقرب إلى سوق صاخب، تُرفع فيه الأصوات أكثر مما تُصاغ فيه الأفكار. التعدد، حين يفقد بوصلته الفكرية، لا ينتج ديمقراطية، بل يبدّدها. وحين يتحول الحزب من فكرة إلى هوية مغلقة، يصبح عبئًا على الوطن لا رافعة له.
الحزب، في تعريفه الأصيل، ليس كيانًا مقدسًا، ولا إرثًا أبديًا، ولا منصةً لتوريث النفوذ. الحزب فكرة سياسية منظمة، تسعى إلى إقناع المجتمع برؤية محددة لإدارة الدولة. فإذا تشابهت الأفكار، وتشابهت البرامج، وتشابهت المرجعيات، فما معنى أن تتكاثر الأحزاب؟ أليس في ذلك اعتراف ضمني بأن الخلاف ليس فكريًا، بل شخصي، أو جهوي، أو عاطفي؟
إن كثرة الأحزاب المتشابهة فكريًا لا تعني ثراءً سياسيًا، بل ضعفًا بنيويًا في الوعي الحزبي. فهي تفتت القاعدة الاجتماعية نفسها، وتدخلها في صراعات هامشية، وتستنزف طاقة الوطن في خلافات لا تنتج سياسات ولا حلولًا. الأسوأ من ذلك أنها تخلق وهم الاختلاف، بينما الحقيقة أن الخطاب واحد، واللغة واحدة، وحتى الوعود متشابهة حد التطابق.
الدولة لا تُبنى بعدد الأحزاب، بل بوضوح الخيارات. والمواطن لا يحتاج عشرات المنصات المتشابهة ليختار، بل يحتاج بدائل فكرية حقيقية، متمايزة في الرؤية، صادقة في الطرح، قابلة للمساءلة. لذلك فإن دمج الأحزاب المتقاربة فكريًا ليس تراجعًا عن الديمقراطية، بل ارتقاء بها. هو انتقال من ديمقراطية الكم إلى ديمقراطية المعنى.
إن الدعوة إلى دمج الأحزاب ليست دعوة للإقصاء، ولا مصادرة للتنوع، بل هي نداء عقلاني لتنقية المشهد السياسي. فالأحزاب ذات المرجعية الواحدة، أو البرامج المتطابقة، أو الأهداف المتقاربة، أولى بأن تجلس إلى طاولة واحدة، وتنتج كيانًا سياسيًا قويًا، قادرًا على المنافسة، وعلى تحمّل مسؤولية الحكم أو المعارضة بجدية.
في الدول التي نجحت في تحولاتها السياسية، لم يكن السر في كثرة الأحزاب، بل في قوتها الفكرية وتنظيمها الداخلي. أحزاب قليلة، لكنها عميقة الجذور، واضحة المواقف، تعرف متى تعارض، ومتى تتوافق، ومتى تقدّم مصلحة الدولة على مكاسبها الضيقة. أما التشرذم الحزبي، فلم يكن يومًا علامة صحة، بل مؤشر ارتباك تاريخي.
وفي مقابل هذا التعدد المربك، يقف الجيش كرمز لوحدة لا تقبل القسمة. ليس لأنه فوق المجتمع، بل لأنه حارس لحدوده الكبرى. وحدة الجيش تذكير دائم بأن هناك معنى أعلى من السياسة اليومية، اسمه الوطن. والسياسة التي لا تتعلم من هذا الدرس، وتصر على الانقسام العبثي، إنما تقود الدولة إلى إنهاك طويل.
التحول السياسي الذي نحتاجه اليوم ليس إعادة تدوير للأسماء، ولا إعادة اصطفاف للأحزاب القديمة في تحالفات هشة، بل ثورة هادئة في الوعي الحزبي. ثورة تعيد تعريف الحزب كفكرة لا كقبيلة، وكبرنامج لا كمنصة صراع، وكوسيلة بناء لا أداة هدم.
دمج الأحزاب المتشابهة فكريًا هو الخطوة الأولى نحو سياسة راشدة. سياسة تقل فيها الضوضاء، ويعلو فيها صوت العقل، وتتقدم فيها الفكرة على الشخص، والوطن على الحزب. عندها فقط، يصبح التعدد قيمة، لا عبئًا، ويصبح الاختلاف قوة، لا شرخًا، ويبدأ الوطن في استعادة معناه الضائع بين كثرة اللافتات وندرة الرؤية.





