د. الشاذلي عبداللطيف يكتب: .. ترانيم الظلم..إعادة الضباط… معركة الدولة مع الفراغ

د. الشاذلي عبداللطيف يكتب: .. ترانيم الظلم..إعادة الضباط… معركة الدولة مع الفراغ
لم تسقط الدول يومًا لأنها افتقرت إلى الرجال، بل لأنها قررت – بوعيٍ بارد أو غفلةٍ قاتلة – أن تُقصيهم.
وحين تُبعد الدولة ضباطها ذوي الخبرة وهم أحياء في العطاء، فإنها لا تُحيلهم إلى التقاعد، بل تُحيل نفسها إلى الفراغ.
هذه ليست قضية ضباط، ولا شأن مؤسسة بعينها، بل مسألة أمن دولة وإدارة وطن. فمن يعرف كيف تُدار الأزمات، وكيف يُضبط الأداء العام، وكيف تُحمى المؤسسات من الانهيار، لا يجوز أن يُترك على الهامش بينما تتعثر الدولة في أبسط وظائفها.
لقد فقدت الشرطة خلال السنوات الماضية أعدادًا كبيرة من الضباط أصحاب الكفاءة العالية، من مختلف الرتب، لا بسبب ضعفٍ في الأداء، ولا لعجزٍ في القدرة، بل نتيجة قرارات إدارية، أو حسابات ضيقة، أو قراءة قاصرة لمعنى الخدمة العامة. خرجوا من الخدمة النظامية، لكنهم لم يخرجوا من دائرة العطاء، ولا من القدرة على البناء، ولا من الانتماء العميق للدولة.
الضابط ليس بندقية تُركن، ولا رتبة تُعلّق على الجدار.
الضابط عقلٌ منظم، وتجربةٌ متراكمة، وخبرةٌ صاغتها الأزمات والملفات الثقيلة، وضغوط القرار، وإدارة البشر والمؤسسات في أصعب الظروف. هذه خبرة لا تُكتسب في سنوات، ولا تُعوّض بتجربة عابرة أو شهادة نظرية.
السؤال الجوهري الذي يجب أن يُطرح بلا مواربة: لماذا لا تستفيد الدولة من هذه الكفاءات في العمل المدني؟
لماذا تُترك الوزارات، والولايات، والهيئات، والشركات العامة، فريسة للارتباك الإداري، بينما تمتلك الدولة مخزونًا بشريًا جاهزًا للضبط والتنظيم واتخاذ القرار؟
الدول التي تحترم نفسها لا تخشى الخبرة، ولا تتحسس من الزي الذي كان يُلبس بالأمس. في تجارب دول الجوار، وعلى رأسها مصر، لم يُنظر إلى الضابط المتقاعد بوصفه عبئًا، بل باعتباره رصيدًا استراتيجيًا. فأُعيد توظيفه في مواقع مدنية حساسة، حيث تحتاج الدولة إلى الحسم، والانضباط، وحماية المال العام، وضبط الأداء المؤسسي.
إعادة الاستفادة من الضباط ليست مجاملة لمؤسسة، ولا انحيازًا لفئة، بل إنقاذٌ لمؤسسات الدولة من الترهل، واستثمارٌ حقيقي في رأس مال بشري أُنفقت عليه الدولة سنوات طويلة من التدريب والتأهيل والخبرة الميدانية.
إن مخاطبة رئيس الوزراء وولاة الولايات في هذا الملف ليست رجاءً، بل مطالبة وطنية صريحة. فإعادة الضباط أو الاستفادة منهم قرار سيادي بامتياز، لا يحتمل التسويف، ولا يقبل الحسابات الصغيرة. من لا يثق في أبناء مؤسساته، لا يستطيع أن يبني دولة مستقرة.
الدولة التي تُقصي خبرتها، تشبه سفينةً ترمي بوصلتها في عرض البحر، ثم تتساءل لماذا ضاعت.
أما الدولة التي تُحسن استدعاء خبرتها، فهي التي تعرف أن الأوطان لا تُدار بالتجريب، ولا تُبنى بالشعارات، بل بالعقول المجربة والرجال الذين عرفوا معنى المسؤولية حين كانت الكلفة عالية.
أعيدوا الضباط…
لا إلى مواقع الأمس، بل إلى مواقع الحاجة.
أعيدوهم لأن الوطن اليوم لا يحتمل مزيدًا من الفراغ، ولا يملك ترف إقصاء من يعرفون كيف تُدار الدولة حين تختلط السياسة بالخطر، ويصبح القرار مسألة بقاء.





