محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما الـDNA؟ (7 من 10) الذاكرة الخفية… ولغة الحياة التي لا صوت لها

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما الـDNA؟ (7 من 10) الذاكرة الخفية… ولغة الحياة التي لا صوت لها
إذا كان الـDNA يحمل شفرتك منذ اللحظة الأولى لوجودك، فإن الأعجب أنه يحمل أيضًا شيئًا لا يقلّ عمقًا: تاريخك. فالخلية لا تحفظ التعليمات الجينية فقط، بل تسجّل — بصمت — كل ما مرّ عليك من تجارب: غذاؤك، مرضك، خوفك، بيئتك، فرحك، وحتى صدمات أجدادك. هذا ما يسميه العلماء اليوم بـالذاكرة فوق الجينية؛ ذاكرة لا تغيّر النص الأصلي للـDNA، ولكنّها تغيّر «طريقة قراءة النص»، فتجعل الخلية تتعلم من الماضي لتتهيأ للمستقبل.
فالإنسان الذي يتعرض لجوع طويل، تُعيد خلاياه برمجة بعض الجينات لتستهلك الطاقة ببطء. والذي يعيش في بيئة ملوّثة تُفعّل لديه جينات مقاومة السموم. والذي ينشأ في بيئة آمنة محبة، تُنشَّط داخله جينات الطمأنينة والمناعة النفسية. والعجيب أن تغيرات كهذه — رغم أنها لا تمسّ الحروف الأصلية — يمكن أن تنتقل إلى الجيل التالي، كأن الذاكرة تُورَّث من حول النص لا من داخله. ليست وراثة الجينات، بل وراثة «طريقة قراءة الجينات».
وهكذا يعيش الإنسان حياتين:
حياة بناها النص الوراثي،
وحياة بنتها التجارب التي أعادت تشكيل طريقة تشغيل النص.
كمن يحمل كتابًا ثابتًا، لكنه يقرأه بأسلوب مختلف وفق ما مرّ عليه من دروس. وهذا وحده يكفي ليُسقط فرضيات الصدفة؛ فالتجربة لا يمكن أن تغيّر طريقة قراءة النص إلا إذا كان النص مهيّأً أصلاً للاستجابة، وهذه الاستجابة هداية لا تملكها المادة العمياء.
ولعلّ أعظم ما في هذا النظام أنه يكشف أن الإنسان ليس منقطع الصلة بماضيه، ولا محايدًا تجاه بيئته. فما يفعله اليوم — من طعام وسلوك وتوتر وراحة — يترك أثرًا في خلاياه، ويمكن أن ينتقل إلى ذريته. وهذا يضع الإنسان أمام مسؤولية كبرى: فاختياراته لا تخصه وحده، بل تمتد إلى الأجيال.
كما أن الأمم — مثل الخلايا — تحمل ذاكرة فوق جينية:
ما مرّت به من ظلم، أو عدل، أو رخاء، أو قهر، أو إصلاح،
لا يزول بالموت ولا ينتقل بالوراثة الجسدية،
بل يُختزن في سلوك مؤسساتها، ووعي شعوبها، وأنماط إدارتها.
فالأمم التي تُصلح ذاكرتها تشفى، والتي تعيد إنتاج صدماتها تمرض، والتي تبني ذاكرة جديدة من العدل والنظام ترتقي كما ترتقي الخلية التي تُعيد برمجة جيناتها.
—
غير أن الدهشة لا تكتمل إلا حين ننتقل من ذاكرة الخلية إلى لغة الخلية؛ فالخلية لا تعيش وحدها، بل تتواصل مع غيرها بلغة كاملة لا يسمعها أحد، لكنها تحفظ الحياة كلها. إن الجسد ليس كومة خلايا، بل «أمّة خلوية» تتحدث بلا صوت، وتتحرك بلا قائد ظاهر، وتتفاهم عبر تريليونات الرسائل التي تنتقل كل لحظة.
فالخلايا تتكلم بجزيئات، وتستمع ببروتينات، وترسل رسائل كهربائية وكيميائية:
رسائل استغاثة، رسائل بناء، رسائل إصلاح، رسائل تنبيه، رسائل تنظيم.
وكل خلية لا تفتح الرسالة إلا إذا طابق المفتاح القفل؛ فإن لم يتطابق، تجاهلته تمامًا. وهكذا لا تختلط الإشارات رغم وجود آلاف الرسائل في اللحظة الواحدة.
فإذا جُرح موضع من الجسد، تطلق الخلايا نداء استغاثة فتتجمع خلايا المناعة كأنها فرق إنقاذ.
وإذا انخفض الأكسجين، تُرسل خلايا العضلات رسائل للدماغ والقلب لزيادة الإمداد.
وإذا ارتفعت الحرارة، تشتكي الخلايا إلى مركز التنظيم الحراري في الدماغ فيضبطها فورًا.
إنها شبكة اتصالات لا تشبه شيئًا في عالم البشر:
إنترنت بيولوجي يعمل دون أسلاك،
ودون محطات،
ودون موجات،
ومع ذلك يعمل بلا اختلاط ولا فوضى.
والأعجب أن هذه اللغة تعمل بطبقات:
رسائل عاجلة، رسائل بعيدة المدى، رسائل دورية، رسائل مشروطة بالسياق.
فالخلية تفهم الرسالة لا وحدها، بل ضمن شبكة كاملة، وهذا يشبه «العقل الموزّع» الذي يعمل بلا مركز واحد، لكنه يحقق نتيجة واحدة متناسقة.
ولو اختلت هذه اللغة — لحظة — لانهار الجسد:
كما يحدث في الأمراض العصبية حين تتشابك الإشارات،
أو في المناعة الذاتية حين تُخطئ الخلايا في تفسير الرسائل،
أو في السرطان حين تتوقف الخلية عن الالتزام باللغة المشتركة.
وهكذا نرى أن «لغة الخلية» جزء من الهداية:
هداية التواصل، لا هداية الوظيفة فقط.
هداية الفهم، لا هداية الحركة فقط.
هداية النظام، لا هداية البقاء فقط.
وإذا نقل الإنسان هذه الصورة إلى واقعه، أدرك أن الأمم التي لا تتواصل مؤسساتها تسقط كما يسقط الجسد الذي تتخبط خلاياه.
وأن الأمم التي تتشابك رسائلها تضطرب كما يضطرب الجسد المريض.
وأن الأمة التي تتفاهم — بلغة واحدة، قانون واحد، رؤية واحدة — تصبح كالجسد السليم:
متناسقة، متماسكة، متجهة نحو نهضتها.
—
وهكذا يتبين أن الـDNA لا يحمل فقط شفرة، بل يحمل ذاكرة، ولغة، وفهمًا، وتواصلًا، وهداية.
وكلما تقدم العلم طبقة ازداد اليقين بأن وراء هذا النظام عقلًا مطلقًا، وأن قوله تعالى:
«وفي أنفسكم أفلا تبصرون»
ليس مجازًا، بل وصفًا دقيقًا لواقعٍ لا يُرى إلا بالمجهر… ولكنه أوضح من الجبال لمن أراد أن يبصر.
وفي الجزء القادم (8 من 10)…
سنرى كيف يدافع الجسد عن نفسه، وكيف تميّز الخلايا بين الصديق والعدو، وكيف تعمل داخل الإنسان منظومة أمنية لا تنام تحفظ الحياة من الفساد والهلاك.





