محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..التحول الرقمي بين الإصلاح وتقويض السيادة

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..التحول الرقمي بين الإصلاح وتقويض السيادة
اطلعتُ على ما كتبه الأستاذ عزمي عبد الرازق حول نظام الإقرار المسبق للشحن (ACD) الذي اعتمدته الجمارك السودانية، وقد خلص في طرحه إلى أن هذا النظام فُرض دون حاجة تشغيلية حقيقية، وأُوكل إلى شركة أجنبية مقرها خارج السودان، مقابل رسوم دولارية كبيرة، من غير أن يضيف قيمة فعلية للإجراءات الجمركية القائمة، ولا أن يُغني عن الكشف أو المعاينة أو التقييم، بل انتهى عمليًا — بحسب ما ساقه — إلى فرض عبء مالي إضافي على المستوردين، مع فتح باب بالغ الحساسية لاطلاع جهة خارجية على
بيانات التجارة الخارجية السودانية، بما تحمله من معلومات استراتيجية تتعلق بالسلع الأساسية، والقيم، والكميات، وأنماط الاستيراد. ويرى الأستاذ عزمي عبد الرازق أن أخطر ما في هذا النظام لا يقف عند حد الرسم، بل يمتد إلى نقل وظيفة سيادية ومورد مالي جديد إلى الخارج تحت لافتة “الإصلاح” و”التحول الرقمي”.
وإلى حين صدور رد رسمي موثّق من الجهات المختصة، يظل ما كُتب في هذا الشأن في إطار التساؤل المهني المشروع، لا الجزم ولا الادعاء. ولئن صحّ ما ذهب إليه الأستاذ عزمي عبد الرازق، وخلاصته هذه، فإنني أُنبّه — من موقع المسؤولية الفكرية والمهنية — إلى خطورة ما يمكن أن ينشأ من فساد باسم الإصلاح عبر التحول الرقمي والرقمنة، وهو عين ما نبهنا إليه مرارًا في سلسلة مقالاتنا حول التحول الرقمي والحوكمة. فالتحول الرقمي ليس استيراد أنظمة، ولا تفويض وظائف، ولا تصدير بيانات، بل هو قبل كل شيء بناء سيادي داخلي تُمسك فيه الدولة بكل مفاصل التصميم والتشغيل والحكم والرقابة.
لقد أكدنا غير مرة أن أخطر ما يواجه مشاريع الرقمنة ليس الفشل التقني، بل الانحراف الوظيفي، حين تتحول الرقمنة من أداة لتقوية الدولة إلى قناة لتفريغها من أدوارها السيادية، وحين تُدار قواعد البيانات الحساسة خارج الإطار الوطني، أو يُفوَّض القرار المعلوماتي إلى جهات لا تخضع للرقابة السيادية ولا للمساءلة القانونية داخل البلاد. فالبيانات اليوم لم تعد مجرد معلومات، بل أصبحت ثروة سيادية لا تقل شأنًا عن الأرض والموارد.
أما الاستعانة بالشركات والخبرات الأجنبية فليست في ذاتها موضع اعتراض، لكنها لا تكون مشروعة ولا مأمونة الأثر إلا إذا كانت استعانة مقيدة ومحددة الغرض والمدة، هدفها نقل المعرفة وتوطين التقنية وبناء القدرات الوطنية، لا خلق اعتماد دائم ولا مورد خارجي مستمر على حساب الخزينة والسيادة. وهذا هو المنهج المعتمد في التجارب الدولية الرشيدة التي تُبقي الملكية السيادية والقرار الاستراتيجي داخل الدولة. وكل إصلاح حقيقي يفقد معناه حين تتحول الدولة إلى مستخدم دائم لمنصات لا تملكها ولا تتحكم في مفاتيحها.
وفي الوقت نفسه، ونقولها بوضوح ومسؤولية، نرجو ألّا يكون ما ذُكر صحيحًا، لأن خطورته — إن ثبت — تتجاوز الجدل الإداري إلى مساس مباشر بالسيادة والمصلحة العامة. ومن هذا المنطلق، فإن الطريق الأسلم والأجدى هو أن تخرج الجهات المعنية ببيانٍ منشورٍ واضح، تصريحًا لا تلميحًا، تُبيّن فيه الحقائق كاملة، وتوضح طبيعة التعاقد، وحدود التفويض — إن وُجد — وضمانات حماية البيانات، وجدول توطين الأنظمة، إزالةً للغُبش، وطمأنةً للرأي العام، وحسمًا لأي التباس.
وحيث إن التفاصيل التعاقدية ذات الصلة بهذا النظام ليست منشورة للرأي العام، فإن النقاش هنا لا ينصب على أشخاص أو شركات بعينها، بل على المبدأ السيادي ذاته، وعلى المعايير التي ينبغي أن تحكم أي مشروع رقمنة يمس مفاصل الدولة ووظائفها الحساسة.
ومن هنا، فإن أي مشروع إصلاح أو رقمنة لا بد أن يقوم على شرح علني واضح للرأي العام، وعطاءات شفافة معلنة تقوم على المنافسة المفتوحة المعروفة الشروط والمعايير، مع تحديد صارم لما هو سيادي لا يجوز تفويضه، وخطة زمنية ملزمة لتوطين الأنظمة والوظائف داخل السودان. فالغموض في مشاريع التحول الرقمي ليس تفصيلًا إداريًا، بل مؤشر خطر يجب التوقف عنده.
إن ما أثاره الأستاذ عزمي عبد الرازق — إن ثبتت وقائعه — لا يُعد موقفًا عاطفيًا ولا خصومة أيديولوجية، بل تنبيهًا مهنيًا ووطنيًا خالصًا، لأن أخطر ما يمكن أن تُبتلى به الدول الهشة ليس الفساد الصريح وحده، بل الفساد الذي يرتدي عباءة الإصلاح، ويتخفى خلف لغة الرقمنة والتحديث، ويُمرَّر باسم المستقبل بينما يستنزف الحاضر ويقوّض السيادة.




