مقالات

د. محمد يوسف قباني يكتب: الطاقة المهدرة: استراتيجيات تحويل طاقات الشباب السوداني إلى قوة اقتصادية..* *Wasted Energy: Strategies for Transforming the Energies of Sudanese Youth into Economic Power..* Dr. Mohamed Elgabbani..

د. محمد يوسف قباني يكتب: الطاقة المهدرة: استراتيجيات تحويل طاقات الشباب السوداني إلى قوة اقتصادية..*
*Wasted Energy: Strategies for Transforming the Energies of Sudanese Youth into Economic Power..*
Dr. Mohamed Elgabbani..

 

في عمق جغرافية القلب الإفريقي، حيث تمتد الصحراء بلونها الذهبي وتتلاقى مياه النيلين في عناق مقدس، تقف أجيال من الشباب السوداني على حافة زمن مضطرب. كحكاية البحر الذي يبحث عن شاطئ. هم (جيل الشباب) ليسوا أرقاماً في إحصاءات البطالة أو العمالة المعطلة إن صح التعبير، ولا مجرد فئة عمرية عابرة. هم قصة وطن بكامله، حكاية بحر هادر من الطاقات البشرية يبحث عن شاطئ ليحط عليه، عن أرض صلبة ليبني عليها أحلامه. في عيونهم يتجاور الأمل مع القلق، وفي أياديهم قوة لا تعرف الكلل، وفي عقولهم أفكار تنتظر إشارة البداية.

لكن هذه القوة العظيمة، هذه الطاقة البشرية الفتية التي تشكل أكثر من ستين بالمئة من نسيج المجتمع السوداني، تظل أشبه بنهر عظيم محبوس خلف سدود البيروقراطية والتهميش وغياب الرؤية والفساد. إنها “الطاقة المهدرة” التي يتحدث عنها الاقتصاديون بقلق، ويلمسها المواطنون يومياً في شوارعنا ومدن الأقاليم وقراها. طاقات شبابية تذوي في انتظار وظيفة لن تأتي، أو تهاجر مخاطرة بحياتها في قوارب الموت عبر البحار، أو تستسلم لليأس في زوايا المقاهي حيث تضيع الساعات وهي تتناقش فيما فقدته الأمة من أحلام.

والسؤال المصيري الذي يفرض نفسه هنا: ماذا لو استطعنا تحويل هذا الهدر إلى إنتاج؟ ماذا لو استطعنا تحويل طاقات الشباب من عبء يتحدثون عنه في تقارير المنظمات الدولية، إلى رافعة اقتصادية ترفع باقتصاد بلد يمتلك كل مقومات النهضة؟ هذه ليست مجرد أُمنية، بل هي معادلة البقاء للدولة السودانية في القرن الحادي والعشرين. فالدول التي تقدمت لم تكن تلك التي تمتلك أكثر الموارد، بل تلك التي استطاعت استثمار عقول شبابها وتحويل أفكارهم إلى منتجات، وطاقاتهم إلى مشاريع، وأحلامهم إلى واقع ملموس.

إن تحويل طاقة الشباب السوداني إلى قوة اقتصادية يشبه عملية كيميائية دقيقة تحتاج إلى محفزات وظروف مناسبة. إنه مشروع وطني يتطلب رؤية استراتيجية شاملة، تبدأ من إصلاح التعليم لتلبية احتياجات سوق العمل، وتمر عبر تهيئة البيئة التشريعية والمؤسسية الداعمة لريادة الأعمال، ولا تنتهي عند تمكين الشباب من قيادة دفة التغيير في مجتمعاتهم المحلية، إي كان ذلك التمكين: تمكين مهني ومهاراتي، تمكين معرفي أو تمكين ثقافي. في السطور التالية، سنسافر عبر تفاصيل هذه الاستراتيجية، نحلل واقع الحال بجرأة، ونقترح مسارات عملية للتحول من ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة الإنتاج، ومن منطق الانتظار إلى منطق المبادرة.

إن ظاهرة إهدار طاقات الشباب في السودان ليست حدثاً عارضاً (تشريح الهدر وبناء آليات التحويل)، بل هي نتيجة تراكمية لسياسات تعليمية واقتصادية واجتماعية تحتاج إلى مراجعة جذرية. فالهدر يتجلى أولاً في القطاع التعليمي، حيث يتخرج آلاف الطلاب سنوياً من جامعات تحملهم شهادات لا تجد لها موطئ قدم في سوق العمل المتغير. إن الفجوة بين ما يدرسه الشباب في قاعات المحاضرات، وما تحتاجه الشركات والمصانع والمشاريع التنموية على أرض الواقع، فجوة تتسع عاماً بعد عام. فالطالب الذي يقضي سنوات في دراسة نظريات قديمة دون تطبيق عملي، أو دون اكتساب مهارات تقنية ولغوية ورقمية، يخرج إلى العالم وكأنه يحمل بضاعة انتهت صلاحيتها. هذا ليس خطأ الشباب، بل هو إخفاق في نظام تعليمي لم يواكب ثورة المعلومات والمهارات التي يشهدها العالم.

ويتجلى الهدر ثانياً في سوق العمل الراكد، حيث تصطدم طموحات الخريجين بحائط البطالة السميك. فالشاب الذي استثمر سنوات عمره وأموال أسرته في التعليم، يجد نفسه في نهاية الرحلة بلا وظيفة، بلا مصدر دخل، بلا دور منتج في المجتمع. هذه البطالة ليست مجرد رقم إحصائي، بل هي عملية إهدار يومي للوقت والطاقة والإبداع. وهي تدفع بالكثيرين إلى قبول أعمال هامشية لا تستغل كفاءاتهم، أو إلى الهجرة الداخلية من الريف إلى المدينة حيث يزيدون من أزمة السكن والخدمات، أو إلى الهجرة الخارجية عبر طرق غير نظامية محفوفة بالمخاطر.

أما الوجه الثالث للهدر فيتمثل في هجرة العقول، وهي الظاهرة التي تفقد فيها البلاد أفضل كفاءاتها من الأطباء والمهندسين والعلماء والباحثين، لصالح دول أخرى تستقبلهم وتوفر لهم البيئة المناسبة للإبداع والإنتاج. إنها هجرة مزدوجة الخسارة: خسارة للاستثمار الوطني الذي أنفق على تعليم هؤلاء، وخسارة للطاقة البشرية التي تحتاجها البلاد في مرحلة إعادة البناء. كما أن الهدر يتجلى في الجانب النفسي والاجتماعي، حيث يولد اليأس والإحباط لدى الشباب شعوراً بالعزلة واللامبالاة، وقد يدفع البعض نحو التطرف أو الانخراط في أنشطة غير مشروعة بحثاً عن إثبات الذات أو الحصول على دخل.

لكن هذا الواقع المرير يمكن تغييره من خلال استراتيجيات عملية تعتمد على الرؤية الشاملة والإرادة السياسية والشراكة المجتمعية. وأولى هذه الاستراتيجيات هي إصلاح النظام التعليمي لربطه باحتياجات التنمية وسوق العمل. وهذا يتطلب تحولاً جذرياً من التعليم النظري إلى التعليم القائم على المهارات والتطبيق. فلا بد من إدخال مناهج تعليمية جديدة تركز على تنمية القدرات التقنية والمهنية، مثل البرمجة، والذكاء الاصطناعي، والطاقات المتجددة، والتسويق الرقمي، وإدارة المشاريع. كما أن إنشاء مراكز تدريب مهني متطورة في جميع الولايات، وتشجيع

الشراكات بين الجامعات والقطاع الخاص، يمكن أن يضمن تخريج كوادر مؤهلة قادرة على قيادة عجلة الاقتصاد.
وتأتي ريادة الأعمال كاستراتيجية ثانية محورية في تحويل طاقات الشباب. فبدلاً من انتظار الوظيفة، يمكن للشاب أن يُوجد وظيفته وينشئ مشروعه الخاص. ولكن هذا يحتاج إلى بيئة محفزة تبدأ بتبسيط إجراءات تسجيل المشاريع الناشئة، وتوفير التمويل المناسب عبر صناديق خاصة تدعم الشباب، وتقديم الاستشارات الفنية والإدارية عبر حاضنات الأعمال ومسرعات النمو. إن دعم الأفكار الريادية في مجالات الزراعة الحديثة، والصناعات التحويلية، والتكنولوجيا، والخدمات السياحية، يمكن أن يحول الشباب من باحثين عن عمل إلى مبتكرين ومنتجين.

أما الاستراتيجية الثالثة فهي توظيف طاقات الشباب في مشاريع البنية التحتية والتنمية المحلية. فالسودان بحاجة إلى إعادة بناء طرقاته، وتطوير أنظمة الري، وبناء المدارس والمستشفيات، وتنفيذ مشاريع الطاقة المتجددة. وهنا يمكن إنشاء برامج وطنية تشغيلية تستقطب آلاف الشباب، وتوفر لهم دخلاً ومهارات جديدة، وتسهم في نفس الوقت في تنمية المجتمعات المحلية. كما أن الاستثمار في القطاع الزراعي، الذي يعد من أهم قطاعات الاقتصاد السوداني، يمكن أن يوفر فرصاً هائلة للشاب إذا ما اقترن بالتقنيات الحديثة والتسويق الذكي.

ولا ننسى الاستراتيجية الرقمية التي تفتح آفاقاً غير مسبوقة للشباب. فمن خلال الإنترنت، يمكن للشاب السوداني أن يعمل مع شركات عالمية، أو يبيع منتجاته في أسواق دولية، أو يقدم خدمات استشارية في أي مكان في العالم. إن دعم المهارات الرقمية، وتوفير البنية التحتية للاتصالات، وتمكين الشباب من أدوات الاقتصاد الرقمي، يمكن أن يخلق جيلاً من الـ “فري لانسرز” والرواد الرقميين الذين يساهمون في الاقتصاد دون الحاجة للهجرة.
في الختام، فإن قضية تحويل طاقات الشباب السوداني من حالة الهدر إلى قوة اقتصادية منتجة، ليست قضية تقنية أو اقتصادية فحسب، بل هي قضية وجودية تمس مستقبل الأمة وهويتها ودورها في العالم. إنها رحلة تحتاج إلى قرار سياسي جريء، يستمع لصوت الشباب ويشركهم في صناعة القرار، ويعترف بأنهم ليسوا مستقبل البلاد فحسب، بل حاضرها الذي يحتاج إلى الاعتناء والاستثمار.

هذه الرحلة تبدأ بالاعتراف بقيمة الطاقة البشرية كأغلى ما تملكه الأمة، وأهم من أي مورد طبيعي. فالنفط ينضب، والذهب يستنفد، ولكن العقل البشري المبدع لا ينضب إذا ما وجد البيئة الخصبة للنمو. إن بناء الثقة بين الدولة وشبابها هو حجر الزاوية في أي استراتيجية ناجحة. فالشاب الذي يشعر بأن وطنه يقف بجانبه، ويوفر له التعليم الجيد، والفرصة العادلة، والبيئة الآمنة للإبداع، سيكون ولاؤه وانتسابه وإنتاجه أعلى بكثير من ذلك الشاب الذي يشعر بالتهميش والإقصاء.

إن النجاح في هذه الرحلة لن يأتي بين ليلة وضحاها، بل هو مسار طويل يحتاج إلى صبر وإصرار، وإلى تجارب قد تنجح وأخرى قد تخفق. ولكن الأهم هو أن نبدأ، وأن نتعلم من أخطائنا، وأن نستمر في السير نحو الهدف. فكل شاب يتم تدريبه، وكل مشروع ناشئ يتم دعمه، وكل فكرة إبداعية يتم تبنيها، هي خطوة على طريق تحويل السودان من دولة تعاني من طاقات شبابها المهدرة، إلى دولة تبني مستقبلها بقوة وعقول شبابها.

لننظر إلى الشباب السوداني ليس كمشكلة تحتاج إلى حل، بل كحل لمشكلات الأمة الاقتصادية والاجتماعية. لنوفر لهم الجسر الذي يعبرون عليه من ضفة الأحلام المعلقة إلى ضفة الواقع المنتج. عندها فقط، سنشهد ولادة سودان واعد، قائم على المعرفة والإبداع والإنتاج، يحمل راية التقدم في إفريقيا والعالم. فطاقات الشباب هي النفط الحقيقي الذي لم يستخرج بعد، وهي الذهب الذي لم يلمع بعد، وهي المستقبل الذي ينتظر من يفتح له الباب.

Deep in the heart of Africa, where the desert stretches in golden hue and the waters of the two Niles meet in a sacred embrace, generations of Sudanese youth stand on the precipice of a turbulent era. Like the sea searching for a shore, they are not mere numbers in unemployment statistics, nor simply a passing age group. They are the story of an entire nation, a story of a surging sea of human potential seeking a safe haven, solid ground upon which to build their dreams. In their eyes, hope and anxiety intertwine; in their hands, tireless strength; and in their minds, ideas await the signal to begin.

But this immense power, this youthful human energy that constitutes more than sixty percent of the fabric of Sudanese society, remains like a mighty river imprisoned behind the dams of bureaucracy, marginalization, lack of vision, and corruption. It is the “wasted energy” that economists speak of with concern, and which citizens experience daily in our streets, cities, and villages. Young people’s potential is wasted waiting for jobs that will never come, or risking their lives in perilous sea crossings on overcrowded boats, or succumbing to despair in cafes where hours are lost discussing the nation’s shattered dreams.

The crucial question that arises here is: What if we could transform this waste into productivity? What if we could transform the energy of our youth from a burden described in international reports into an economic engine that propels a nation possessing all the ingredients for progress? This is not merely a wish; it is the equation for Sudan’s survival in the 21st century. The nations that have advanced are not those with the most resources, but those that have managed to invest in the minds of their youth,

transforming their ideas into products, their energies into projects, and their dreams into tangible realities.
Transforming the energy of Sudanese youth into economic power is akin to a delicate chemical process requiring catalysts and suitable conditions. It is a national project demanding a comprehensive strategic vision, beginning with educational reform to meet labor market needs, progressing through the creation of a supportive legislative and institutional environment for entrepreneurship, and culminating in empowering young people to lead change in their local communities, whether that empowerment is professional and skills-based, intellectual, or cultural. In the following paragraphs, we will delve into the details of this strategy, boldly analyzing the

current situation and proposing practical pathways for shifting from a culture of consumption to a culture of production, and from a mindset of waiting to one of initiative.
The phenomenon of wasted youth potential in Sudan is not an isolated incident (analyzing the waste and building mechanisms for transformation), but rather the cumulative result of educational, economic, and social policies that require fundamental review. This waste is most evident in the education sector, where thousands of students graduate annually from universities with degrees that have no place in the evolving labor market.

The gap between what young people learn in lecture halls and what companies, factories, and development projects actually need is widening year after year. Students who spend years studying outdated theories without practical application, or without acquiring technical, linguistic, and digital skills, emerge into the world as if carrying expired goods. This is not the fault of the youth, but rather a failure of an educational system that has not kept pace with the information and skills revolution the world is witnessing.
This waste is further manifested in the stagnant job market, where graduates’ aspirations collide with the formidable wall of unemployment. Young people who have invested years of their lives and their families’ money in education find themselves at the end of their journey without a job, without a

source of income, and without a productive role in society. This unemployment is not merely a statistic; it is a daily waste of time, energy, and creativity. It pushes many to accept menial jobs that do not utilize their skills, or to migrate internally from rural to urban areas, exacerbating the housing and services crisis, or to migrate abroad via perilous and irregular routes. The third aspect of this waste is the brain drain, a phenomenon in which a country loses its best talent—doctors, engineers, scientists, and researchers—to other countries that welcome them and provide a suitable environment for creativity and productivity. This is a double loss: a loss of the national investment spent on their

education, and a loss of the human capital the country needs during its reconstruction phase. This waste also manifests itself in the psychological and social spheres, where despair and frustration breed feelings of isolation and apathy among young people, and may even push some toward extremism or involvement in illegal activities in a search for self-affirmation or income.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى