مقالات

د. محمد يوسف قباني يكتب: بين مطرقة التأهيل وسندان الاحتياج: آفاق تجسير الفجوة بين تعليم الشباب ومتطلبات سوق العمل..Between the hammer of qualification and the anvil of need: Prospects for bridging the gap between youth education and labor market requirements.* Dr. Mohamed Elgabbani

 د. محمد يوسف قباني يكتب: بين مطرقة التأهيل وسندان الاحتياج: آفاق تجسير الفجوة بين تعليم الشباب ومتطلبات سوق العمل..Between the hammer of qualification and the anvil of need: Prospects for bridging the gap between youth education and labor market requirements.*
Dr. Mohamed Elgabbani..

 

في قلب الخرطوم، حيث يلتقي النيلان الأزرق والأبيض، يلتقي أيضاً حُلمان كبيران: حلم شاب سوداني تخرّج للتو يحمل شهادة تلمع كالذهب في عيون أهله، وحلم سوق عمل إقليمي متعطش لكفاءات تلمع كالذهب في سجلات الرواتب. لكن بين هذين الحُلمين تقف هُوة تبدو أعمق من أعمق نقاط التقاء النيلين، فجوة تشبه انفصال قارتين كانتا يوماً كتلة واحدة.
لطالما شكل الشباب السوداني نهراً حيوياً يتدفق بالطموح، لكن هذا النهر اليوم يواجه سدوداً من الواقع المرير. فبينما ترفع الجامعات السودانية شعار “العلم نور” على واجهاتها، يجد خريجوها أنفسهم في ظلام من عدم اليقين المهني. المشكلة ليست في قلة العلم، بل في نوعيته واتجاهه. لقد تحولت العملية التعليمية في كثير من جوانبها إلى طقس اجتماعي يكرس الشهادة كغاية، بينما العالم من حولنا جعل المهارة هي الغاية والكيفية والآليىة معاً.

في أروقة الجامعات السودانية، حيث تتراص حروف المناهج النظرية في فضاء أكاديمي يشوبه بعض الغموض، يقف آلاف الشباب السوداني على أعتاب التخرج وهم يحملون أحلاماً كبيرة، وحائطاً من التساؤلات المصيرية: هل سيجدون طريقهم في سوق عمل محلي يعاني من تشوهات هيكلية مزمنة؟ وهل ستكون شهاداتهم جواز مرور إلى الأسواق الإقليمية المتوثبة في الخليج العربي ومصر والمغرب العربي، وحتى ما وراء البحار؟ هذه الأسئلة لا تعكس قلقاً فردياً عابراً، بل هي تعبير عن فجوة عميقة وخطيرة بين “عالم التعليم” و”عالم العمل”، فجوة تهدد بتحويل طاقات شبابية هائلة من نعمة إلى نقمة، ومن قوة دفع تنموية إلى عبء اجتماعي وسياسي.

لطالما تغنى السودان بثروته البشرية الشبابية، التي تشكل أكثر من 60% من سكانه، كرأسمال استراتيجي للمستقبل. لكن هذه الثروة اليوم تقف أمام مفترق طرق مصيري. فمن جهة، ينتج النظام التعليمي، بشقيه العالي والفني، أعداداً هائلة من الخريجين في تخصصات تقليدية كالقانون والإدارة والأداب، بينما تشهد الأسواق المحلية والإقليمية طلباً متسارعاً على تخصصات المستقبل: تحليل البيانات، الأمن السيبراني، الطاقة المتجددة، التقنية الزراعية، الاقتصاد الرقمي، والخدمات اللوجستية المتطورة. من جهة أخرى، لا تزال فلسفة التعليم تركز على الحشو النظري وإنتاج “حامل شهادة” أكثر من إنتاج “صاحب مهارة”، في حين أصبحت أسواق العمل الإقليمية، المتعطشة للكفاءات، تبحث عن “حزمة كفايات” تشمل المهارات التقنية واللغوية والرقمية والشخصية معاً.

هذا الفصل غير الطبيعي بين ما نعلمه للشباب وما يحتاجه السوق ليس مشكلة سودانية خالصة، لكن حدة آثارها في السودان تتضاعف بسبب السياقات الاقتصادية الهشة، والتحولات السياسية المتلاطمة، والمنافسة الإقليمية الشرسة على الكفاءات. فالخريج السوداني لم يعد ينافس زميله في الخرطوم أو مكان في السودان فحسب، بل ينافس أيضاً خريجي الهند وباكستان والفلبين ومصر على نفس الوظيفة في مسقط أو الرياض أو الدوحة. هنا يبرز السؤال الملح: كيف نبني ذلك “الجسر الذهبي” الذي يربط ضفتي هذا الوادي العميق؟ جسر لا يكون خشبياً عابراً بل يكون معبداً بفلسفة تعليمية جديدة، ومواد بناء من المهارات العابرة للحدود، وتصميماً هندسياً يستشرف احتياجات الغد.
إن المتأمل في خريطة التعليم السوداني يجد مفارقة

عجيبة، ففي الوقت الذي تفتح فيه جامعاتنا أبوابها لمزيد من الطلاب في تخصصات الأدب العربي والتاريخ والفلسفة – وهي تخصصات عزيزة على النفس – تبقى أسواق العمل العالمية تبحث عن مهندسي بيانات، وأخصائيي أمن سيبراني، وتقنيي زراعة ذكية. ليست هذه دعوة للتخلي عن العلوم الإنسانية، بل هي دعوة لإعادة اكتشافها في ضوء حاجات العصر، فالفلسفة اليوم تحتاج إلى من يطوعها لفهم أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، والتاريخ يحتاج إلى من يستخلص منه دروساً لإدارة الأزمات المؤسسية.

إن الجسر الذي ننشده ليس جسراً من أسمنت وحديد، بل هو جسر من إرادة وتصميم وفهم عميق. أولى دعائم هذا الجسر تبدأ من إعادة تعريفنا لمفهوم “التعليم”. فالتعليم لم يعد ذلك المخزون المعرفي الذي يحشى في أذهان الطلاب، بل أصبح عملية ديناميكية لصناعة وبناء “الإنسان القادر على التعلم المستمر”. فالعالم الذي سيعمل فيه خريج اليوم سيشهد تغييرات مهنية جذرية، حيث ستختفي وظائف وتظهر أخرى لم نسمع عنها بعد. لذلك، فإن أهم مهارة نعلمها لشبابنا هي “مهارة تعلم المهارات الجديدة”.

لقد شهدت بنفسي في إحدى الورش التدريبية معلمة لغة عربية متقاعدة، تعلمت البرمجة في عمر الخمسين، وأصبحت تقود فريقاً من المبرمجين الشباب. هذه القصة تختصر فلسفة الجسر الذهبي: لا عمر للتعلم، ولا حدود للتحول. لكن هذا التحول يحتاج إلى بيئة حاضنة، وهذا ما يجب أن توفره مؤسساتنا التعليمية.
المفارقة المؤلمة أن السودان يملك كل مقومات النجاح في هذه المعادلة الصعبة. فالشابة والشاب السوداني يتمتع بذكاء حاد وقدرة على التكيف، وسمعة طيبة في الأسواق الإقليمية من حيث المثابرة والأمانة. لكن هذه الميزات تحتاج إلى صقل وتوجيه. فالقدرة اللغوية المتميزة التي يملكها الشاب السوداني، على سبيل المثال، يمكن أن تتحول من مجرد ثقافة عامة إلى أداة مهنية قوية إذا اقترنت بتخصص في الترجمة التقنية أو المحتوى الرقمي أو التسويق اللغوي.

إن الشراكة بين القطاعين العام والخاص باتت أمرا ضرورياً. فكيف تقبل جامعة أن تخرج مئات المهندسين كل عام دون أن يكون بينها وبين شركات المقاولات أو الطاقة شراكة حقيقية؟ كيف تقبل كلية حاسبات أن تدرس نظريات برمجية بالية بينما العالم يسبقها بسنوات في تطبيقات الذكاء الاصطناعي؟ هذه الشراكة يجب أن تبدأ من تصميم المناهج، وتمر بالتدريب الميداني، وتصل إلى التوظيف المباشر.
لقد أظهرت أزمة كورونا قدرة العالم على التحول الرقمي السريع، وهذا درس يجب أن نستفيد منه في سوداننا. فالتعليم عن بعد لم يعد أمراً غير مهماً، بل أصبح ضرورة لوصول المعرفة الحديثة إلى كل شاب سوداني في أقصى قراه. كما أن الشهادات المصغرة (Micro-Credentials) التي تقدمها المنصات العالمية أصبحت عملة صعبة في سوق العمل العالمي، وعلينا أن نسهل حصول شبابنا عليها واعتمادها رسمياً.

إن بناء هذا الجسر الذهبي يحتاج إلى رؤية واضحة تبدأ من مرحلة ما قبل الجامعة. فالتوجيه المهني يجب أن يبدأ من المدرسة الثانوية، حيث يكتشف الطالب ميوله وقدراته، ويتعرف على سوق العمل الحقيقي، لا السوق المتخيل في أذهان أهله. فكم من طالب دخل كلية الطب لأنه “أعلى كلية” بينما كان قلبه مع الفن أو البرمجة؟
أما المهارات الناعمة – تلك المهارات التي لا تدرس في مناهج ولكنها تحكم النجاح في الحياة العملية – فهي اللبنة الذهبية في هذا الجسر. فنحن نعلم الشباب المعادلات الرياضية المعقدة، ولكننا لا نعلمهم فن التفاوض البناء. نعلمهم قواعد اللغة بدقة، ولكننا لا نعلمهم فن الإقناع والتأثير. نعلمهم نظريات الإدارة، ولكننا لا نعلمهم فن القيادة في الأزمات.

إن النظر إلى الأسواق الإقليمية يجب أن يكون نظرة استراتيجية وليست نظرة انتهازية. فالسودان بموقعه الجغرافي وثرواته البشرية والطبيعية يمكن أن يكون شريكاً استراتيجياً في تحقيق الأمن الغذائي العربي، والطاقة النظيفة، والخدمات اللوجستية. ولكن هذا يحتاج إلى تخصصات جديدة تبتكر في هذه المجالات، لا أن تكتفي بنقل النمط التقليدي.
وفي نهاية المطاف، فإن هذا الجسر الذهبي لن يكتمل إلا بتحول ثقافي مجتمعي. تحول يقدر التعليم المهني كما يقدر التعليم الجامعي، تحول يرى في الحرفي الماهر بطلاً قومياً كما يرى في الطبيب بطلاً، تحول يحتفي بالمبتكر والمخترع كما يحتفي بالمنظر والأكاديمي.

إنني أرى هذا الجسر قائماً بالفعل في عقول الكثير من الشباب الطموح، وفي جهود بعض المؤسسات الواعية، وفي إرادة قادة يدركون أن مستقبل السودان لا يُبنى بالشعارات بل بالمهارات. الجسر موجود في كل شاب يتعلم لغة جديدة عبر الإنترنت، وفي كل فتاة تنشئ مشروعاً رقمياً من غرفتها، وفي كل معلم يبتكر طريقة جديدة لربط العلم بالحياة.
هذا الجسر الذهبي الذي ننشده هو في الحقيقة جسر بين ماضٍ نفاخر به، وحاضر نعيش تحدياته، ومستقبل نصنعه بمهارة وإتقان. إنه الجسر الذي سيعيد للسودان دوره الرائد، ليس كبلد يصدّر المواد الخام فقط، بل كبلد يصدّر العقول المبدعة، والأيدي الماهرة، والقلوب العاملة التي تبنى وتُعمر.
فليبدأ كل منا في بناء الجزء الذي يناسبه من هذا الجسر: المعلم بتطوير اسلوب تدريسه، والطالب بالسعي لامتلاك المهارات، والمسؤول بتذليل العقبات، ورجل الأعمال بفتح فرص التدريب. معاً، سنجعل من فجوة اليأس جسر أمل، ومن هوة البطالة معبراً للازدهار.

فالسودان لم يفتح أبوابه للعلماء والمهاجرين عبر تاريخه الطويل إلا لأنه كان جسراً بين الحضارات، وها هو اليوم يدعو شبابه ليكونوا جسراً بين التعليم وضرورات العصر، بين الأحلام وواقع الأسواق، بين السودان والعالم.
In the heart of Khartoum, where the Blue and White Niles meet, two grand dreams converge: the dream of a young Sudanese graduate, his degree shining like gold in his family’s eyes, and the dream of a regional job market thirsting for talent that shines like gold on its payroll. But between these two dreams lies a chasm deeper than the Nile’s deepest

confluence, a chasm akin to the separation of two continents that were once a single entity.
Sudanese youth have always been a vibrant river flowing with ambition, but today this river faces the dams of harsh reality. While Sudanese universities proudly proclaim “Knowledge is Light,” their graduates find themselves shrouded in the darkness of professional uncertainty. The problem isn’t a lack of knowledge, but rather its quality and direction. The educational process, in many aspects, has become a social ritual that

elevates the degree to an end in itself, while the world around us has made skill the goal, the method, and the mechanism all at once. In the halls of Sudanese universities, where theoretical curricula are arranged in an academic space shrouded in some ambiguity, thousands of young Sudanese stand on the threshold of graduation, carrying grand dreams and grappling with a wall of existential questions: Will they find their way in a local job market plagued by chronic structural distortions? Will their degrees be a passport to the burgeoning regional markets of the Arabian Gulf, Egypt, North Africa, and even beyond? These questions do not reflect

fleeting individual anxieties, but rather a deep and dangerous chasm between the “world of education” and the “world of work”—a chasm that threatens to transform the immense potential of their youth from a blessing into a curse, and from a driving force for development into a social and political burden.
Sudan has long boasted of its young human capital, which constitutes more than 60% of its population, as a strategic asset for the future. But today, this wealth stands at a critical crossroads. On the one hand, the education system, both higher and vocational, produces enormous numbers of graduates in traditional fields such as law, management, and humanities, while local and regional

markets are witnessing a rapidly growing demand for future-oriented specializations: data analysis, cybersecurity, renewable energy, agricultural technology, the digital economy, and advanced logistics. On the other hand, the philosophy of education still focuses on theoretical rote learning and producing a “degree holder” rather than a “skilled individual,” while regional labor markets, hungry for talent, are now looking for a “competency package” that includes technical, linguistic, digital, and soft skills.

This unnatural disconnect between what we teach our youth and what the market needs is not unique to Sudan, but its effects are amplified in Sudan by fragile economic conditions, turbulent political transitions, and fierce regional competition for talent. Sudanese graduates no longer compete only with their peers in Khartoum or elsewhere in Sudan, but also with graduates from India, Pakistan, the Philippines, and Egypt for the same jobs in Muscat, Riyadh, or Doha. This raises the pressing question: how do we build that “golden bridge” that connects the two banks of this deep valley? A bridge not merely a wooden structure, but one paved with a new educational philosophy, built with skills that transcend borders, and designed with an engineering vision that anticipates the needs of tomorrow.

Anyone examining the Sudanese education system will find a striking paradox. While our universities are opening their doors to more students in Arabic literature, history, and philosophy—disciplines that hold a special place in our hearts—the global job market continues to seek data engineers, cybersecurity specialists, and smart agriculture technicians. This is not a call to abandon the humanities, but rather a call to rediscover them in light of the needs of our time. Philosophy today needs those who can adapt it to understand the ethics of artificial intelligence, and history needs those who can extract lessons from it for managing institutional crises.

The bridge we seek is not one of cement and steel, but a bridge of will, determination, and profound understanding. The first pillar of this bridge begins with redefining the concept of “education.” Education is no longer merely a store of knowledge crammed into students’ minds, but has become a dynamic process of creating and building “the human being capable of lifelong learning.” The world in which today’s graduates will work will witness radical professional changes, with some jobs disappearing and others emerging that we haven’t even heard of yet. Therefore, the most important skill we can teach our youth is “the skill of learning new skills.”

I personally witnessed, in a training workshop, a retired Arabic language teacher who learned programming at the age of fifty and now leads a team of young programmers. This story encapsulates the philosophy of the golden bridge: there is no age limit to learning, and no boundaries to transformation. But this transformation needs a nurturing

environment, and that is what our educational institutions must provide.
Civilizations, and today he calls upon his youth to be a bridge between education and the necessities of the age, between dreams and the reality of the markets, between Sudan and the world.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى