محمد عثمان النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي: (5 من 13) الصحة الذكية وإنقاذ الأرواح بالبيانات

محمد عثمان النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي: (5 من 13) الصحة الذكية وإنقاذ الأرواح بالبيانات
لم تعد الصحة في العالم الحديث رهينة الطبيب وحده، ولا رهينة توفر المستشفى أو الأجهزة أو الكادر، بل أصبحت — وبشكل متزايد — رهينة البيانات؛ البيانات التي ترى ما لا يراه الإنسان، وتلتقط ما قد لا تظهره العين، وتتنبأ بما لم يحدث بعد. والذكاء الاصطناعي، الذي أطلق ثورة المعرفة في كل القطاعات، قدّم للطب فرصة غير مسبوقة لإنقاذ الأرواح وخفض الأخطاء وتحسين جودة العلاج، بشرط أن تتوفر البيئة الرقمية التي تحتضنه.
فالصحة الذكية تبدأ من لحظة لم يكن الناس يلتفتون إليها: لحظة جمع البيانات. فالمستشفى الذي لا يملك سجلًا صحيًا موحدًا يعيش في الظلام، يتعامل مع كل زيارة كأنها أول مرة. أما النظام الصحي الرقمي فيعرف المريض منذ اللحظة الأولى: تاريخه، حساسيته، أدويته، عملياته السابقة، تقارير أشعته، نتائج تحاليله. المعرفة هنا ليست ترفًا، بل حياة.
السجل الصحي الموحد هو العمود الفقري لأي نظام صحي حديث؛ سجلٌّ رقمي واحد، آمن، متصل، يعرف المريض من ولادته إلى علاجه. وما إن تتوفر البيانات، حتى يبدأ الذكاء الاصطناعي في العمل: خوارزميات تقرأ صور الأشعة بدقة عالية، نماذج تتنبأ بأمراض القلب قبل ظهور الأعراض، أنظمة تكشف مبكرًا عن الأورام، تحليلات تتوقع الأوبئة، وأدوات تقترح خطط علاج مبنية على ملايين الحالات المشابهة.
وفي السودان، يمكن للصحة الذكية أن تُحدث ما يعادل ثورة إنقاذ وطنية. فمن خلال رقمنة المستشفيات، وإنشاء السجل الصحي الموحد، وتطوير منصات حجز المواعيد، واستخدام التحليل الذكي للأشعة والتحاليل، يمكن خفض الأخطاء الطبية، وتقليل الازدحام، وتقريب الخدمة من المواطنين في المناطق البعيدة. بل يمكن للنظام الصحي الرقمي أن يعيد توزيع الموارد البشرية، فيعرف أين يوجد ضغط، وأين توجد فجوة، وأين يجب إرسال الكوادر.
والذكاء الاصطناعي لا يقتصر دوره على التشخيص، بل يمتد إلى تشغيل المستشفيات نفسها: إدارة حركة الأسرة، وجدولة العمليات، وتوزيع التمريض، وتقدير احتياجات الأدوية، ومتابعة الأجهزة للتنبؤ بالأعطال قبل حدوثها. وكل هذا يرفع الكفاءة ويخفض التكلفة، ويجعل المستشفى يعمل كما ينبغي: بأعلى إنتاجية وأقل هدر.
وتنشأ في هذه البيئة شركات صغيرة قادرة على صنع فرق كبير: شركات لقراءة الأشعة، ومنصات للمواعيد، وأخرى لتتبع الإمداد الدوائي، وتطبيقات لمتابعة مرضى السكر والقلب، وخدمات للطب الافتراضي، وشركات للصيانة التنبؤية للأجهزة. هذه الشركات ليست رفاهية، بل ضرورة توسّع قاعدة الخدمة وتسد الفجوات التي لا يغطيها النظام الحكومي وحده.
ولعل أجمل ما تفعله الصحة الذكية أنها تُعيد الثقة بين المواطن ومستشفاه؛ حين يعرف أن بياناته محفوظة بدقة، وأن الطبيب أمامه يرى الصورة كاملة، وأن النظام يمنحه موعدًا محددًا لا ينتظر فيه ساعات، وأن العلاج مبني على أفضل معرفة متاحة.
إن التحول نحو الصحة الذكية ليس خطوة تقنية، بل خطوة حضارية. فالأمم التي تحفظ صحة شعوبها تحفظ مستقبلها، والأمم التي توظف الذكاء الاصطناعي في الطب تُسرّع الشفاء وتقلل المعاناة، وتمنح لطبّها بعدًا جديدًا مبنيًا على العلم والمعرفة. والسودان قادر — إذا أُحسن التخطيط، وتحررت بيئته الاقتصادية والخدمية — أن يقفز قفزة كبيرة عبر هذا المسار، وأن ينشئ نظامًا صحيًا حديثًا يليق بإنسانه.
وهذا المقال يأتي خطوة خامسة في سلسلة تمتد إلى ثلاثة عشر مقالًا نبني بها تصورًا متكاملًا لعلاقة السودان بالرقمنة والذكاء الاصطناعي، وكيف يمكن لهذه الأدوات أن تنقذ الأرواح، وتحسن الخدمات، وترفع الإنتاج، وتعيد للدولة مكانتها، وللمواطن كرامته.




