منى أبوزيد تكتب: ..هناك فرق .. في الذاكرة الجريحة..!

منى أبوزيد تكتب: ..هناك فرق .. في الذاكرة الجريحة..!
“نحن الذين فهمنا كل شيء مبكراً، نحتاج إلى كرة أرضية أخرى نستريح فيها بعيداً عن صراعات الذين لم يفهموا بعد”.. غابرييل غارسيا ماركيز..!
هناك لحظات في تاريخ الأمم لا يكفي فيها الخبر العاجل ولا يفي حقها بيان رسمي، لحظات تصبح فيها الذاكرة الجماعية نهباً للصمت، إلا إذا أنقذها صوتٌ يكتب، أو شاهدٌ يدوِّ، أو باحثٌ ينقّب في رماد الخسارات ليعيد ترتيب الحكاية..!
الحرب – أي حرب – ليست قتيلاً وتشريداً فحسب، بل سردياتٌ عديدة متصارعة، وكل شعب لا يدوّن وقائعه إنما يترك لغيره أن يكتب عن معاناته بالطريقة التي يشاء..!
وهكذا بدا كتاب البروفيسور عبد اللطيف البوني “مقالات على مقال نكبة شمال الجزيرة” كأنه يقترح على السودانيين واجباً مؤجلًا “أن يُدوّنوا هذه الحرب قبل أن تتساقط تفاصيلها من الذاكرة، وقبل أن تُروى حكاياتهم بغير أصواتهم. مقال” من اللعوتة إلى نيويورك” الذي نهض عليه الكتاب، لم يكن نصاً عادياً بل صرخة موثّقة، وكتابة خرجت من واقع النجاة بعد مجابهة الأهوال. كان حديثاً من قلب رجل رأى الحرب بعيون أهله، وليس بعيون المحللين. لذلك انتشر المقال، ولذلك هَب الكُتّاب يكتبون معقبين عليه، وكأن النص فتح نافذة للبوح الجماعي..!
هذه التجربة على انسيابها العفوي تطرح سؤالاً كبيراً “لماذا يصبح التوثيق ضرورة وجودية لا رفاهية فكرية”. والجواب واضح “لأن الأمم التي لا توثّق آلامها تظل تحاربها إلى الأبد”..!
في رواندا، بعد الإبادة الجماعية عام 1994، حمل المثقفون والناجون كاميراتهم ودفاترهم وأصواتهم، ودوَّنوا التفاصيل السوداء المُروِّعة بدقة وقبات. لم يكن الهدف التشهير، بل الوقاية، وعندما جاءت المصالحة الوطنية كان التوثيق هو السقف الذي احتمى به الجميع، الضحية والجلاد، السياسي والمؤرخ، المواطن وصانع القرار. فالتوثيق إذاً جعل الحقائق ملموسة، فأتاح للعدالة أن تمشي على قدمين..!
وفي البوسنة، حين انتهت الحرب، اكتشفت أوروبا أن نصف الجرائم لم تكت لتعرف لولا شهادات الأطباء والمصورين والطلاب الذين أخفوا الدفاتر في أقبية الكنائس. تلك الشهادات كانت لاحقاً العمود الفقري لمحكمة لاهاي. ومن دونها، لكانت فظائع حرب البوسنة والهرسك مجرد أرقام باردة بلا وجوه..!
أما في جنوب أفريقيا، فقد أثبتت “لجنة الحقيقة والمصالحة” أن التوثيق ليس حكراً على الماضي، بل مفتاحاً للمستقبل. الاعتراف، الكتابة، الشهادة، كلها كانت آليات لتفكيك إرث العنف وبناء دولة جديدة. لقد انتصرت جنوب أفريقيا لأن مواطنيها لم يخجلوا من تدوين القبح الذي عايشوه، ولأنهم آمنوا بأن الشعوب لا تُشفى بالتجاهل بل المجاهرة..!
السودان اليوم في حاجة إلى روح مشابهة، فالحرب التي شردت الملايين وابتلعت القرى وأطفأت البيوت، لا يمكن أن تمر كحدث عابر. والتوثيق ليس مهمة الصحفيين وحدهم، ولا الباحثين أو الأكاديميين أو صناع المحتوى فقط، بل هو فعل جماعي، ينهض به الطبيب الذي رأى المرضى يهرولون خارج المستشفيات، والمهندس الذي فقد مشروع عمره، والمرأة التي خبأت حليها يوم أن سقطت قريتها، والأستاذ الذي أصبح تلميذاً للخراب. كل هؤلاء شهود. وكل شاهد مسؤول عن كتابة حصته من الحقيقة..!
ليس المطلوب كتابة كتب ضخمة، ولا إنتاج أفلام عظيمة. يكفي أن يروي كل فرد ما رآه، في رسالة، في مقال، في صورة، في تسجيل صوتي. وهذا شأن لا يحتاج إلى بطولة، بل يحتاج إلى صدق..!
سيأتي يوم تنطفئ فيه نيران هذه الحرب، مهما طال ليلها. وحين يأتي ذلك اليوم، ستحتاج بلادنا إلى سجل أخلاقي، لا إلى أرشيف عسكري. ستحتاج إلى ذاكرة لا تتواطأ مع النسيان، وإلى رواية واحدة تُعيد للسودانيين ثقتهم بأنفسهم ومستقبلهم..!
إن ما كتبه البروفيسور عبد اللطيف البوني ليس مجرد كتابة وكفى، بل افتداء للذاكرة من الضياع. ودعوته للتوثيق ليست طلباً عابراً، بل بداية نهج جماعي يجب أن يتسع “أن نكتب الحرب حتى نستطيع أن يوماً نكتب السلام”!.
munaabuzaid2@gmail.com
المصدر: صحيفة الكرامة





