مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما النانو (3 من 10): دواءٌ يختار ويعالج

 محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما النانو (3 من 10): دواءٌ يختار ويعالج

 

 

لم يعد الطب الحديث يبحث فقط عن علاجٍ يقتل المرض، بل عن علاجٍ يفهم المرض ويختاره ويصل إليه دون أن يخطئ هدفه. ومن هذا الإدراك وُلدت ثورة جديدة جعلت الدواء أكثر ذكاءً ورحمةً ودقة: ثورة النانو في الطب، التي فتحت أمام الإنسان بابًا كان يُعدّ من الخيال العلمي، باب “الدواء الحيّ” الذي يتحرك بعقلٍ علمي دقيق.

لقد كان الدواء في العصور السابقة يسري في الجسد كله؛ يدخل الدم فينفع عضوًا ويؤذي آخر، ويحتاج إلى جرعات كبيرة ليبلغ موضع الألم. أما اليوم فقد أتاح علم النانو تصنيع جزيئات دقيقة — أصغر آلاف المرات من خلايا الدم — تُرسل محمّلة بالعلاج إلى الخلايا المصابة تحديدًا، فتتعرّف عليها وتخترق جدارها وتُفرغ الدواء بداخلها دون أن تمسّ الخلايا السليمة.

هذه التقنية تُعرف بالعلاج الموجَّه بالنانو، وهي من أعظم إنجازات الطب الحديث. فبدل أن يكون العلاج عشوائيًا أصبح انتقائيًا يعرف طريقه بنفسه. تُغلف الجسيمات النانوية بمواد حساسة تتفاعل مع البيئة الكيميائية للخلايا المريضة فقط، فإذا بلغت هدفها تغيّر سطحها وتطلق الدواء في اللحظة والمكان المناسبين. وهكذا يتحول الدواء إلى كائن ذكي يسلك طريقه بإتقان.

وقد أحدث هذا التحول ثورة في علاج السرطان، إذ باتت الجسيمات النانوية قادرة على الوصول إلى الورم دون أن تُتلف الأنسجة السليمة المحيطة به، وبدقة تفوق قدرات الجراحة أو الأشعة. كما أتاح النانو تطوير أنظمة جديدة لتصوير الأعضاء الداخلية والكشف المبكر عن الأورام، باستخدام جسيمات تصدر إشارات ضوئية يمكن رصدها في أعماق الجسم، فصار التشخيص نفسه عملاً نانويًا يمشي على خريطة الضوء. ولا يقف الأمر عند العلاج وحده، بل يمتد إلى تجديد الأنسجة وصناعة الأعضاء الحيوية. فبفضل النانو صار بالإمكان تصميم مواد حيوية تحاكي طبيعة الخلايا، تُستخدم في ترقيع العظام أو إصلاح الأعصاب أو بناء الجلد، ليفتح العلم بابًا جديدًا تتداخل فيه الهندسة مع الأحياء ويتجلى فيه الإبداع الإلهي في خلق الإنسان.

وليس هذا كله نظريًا أو وعدًا بالمستقبل، بل حقيقة مطبقة اليوم في مستشفيات العالم. فقد أصبحت العلاجات النانوية جزءًا من الممارسة الطبية المعتمدة، تُستخدم في استهداف الأورام الخبيثة بدقة عالية تقلل الأذى عن الأنسجة السليمة، وترفع فعالية الدواء مقارنة بصورته التقليدية. كما جرى اعتماد تقنيات نانوية متقدمة في التصوير الطبي للكشف المبكر عن الأورام الصغيرة والالتهابات، وذلك عبر جسيمات دقيقة تُظهر تفاصيل لا يمكن للطرق التقليدية رصدها. وفي ميادين الهندسة الحيوية، تُستخدم مواد نانوية في ترقيع العظام، وإصلاح الأنسجة، وتصميم بدائل حيوية تُحاكي البنية الطبيعية للخلايا، بينما تعمل مراكز بحثية كبرى حول العالم على تطوير ألياف نانوية دقيقة لإصلاح الأعصاب وتحفيز نموها. وهذه كلها تطبيقات قائمة بالفعل تؤكد أن النانو لم يعد علمًا قيد التجربة، بل تحول إلى ركيزة من ركائز الطب الحديث تتوسع يومًا بعد يوم.

وهنا يبرز مجال واسع يعمل عليه الباحثون حول العالم: تحويل المواد العشبية الطبيعية والأدوية الآمنة — سواء للاستخدام الداخلي أو الخارجي العلاجي أو التجميلي — إلى تراكيب نانوية دقيقة تضاعف مفعولها أضعافًا. ولئن كانت معالجة التراكيب الدوائية الكيماوية بالنانو تهدف إلى زيادة الفاعلية واستهداف الجزء المريض دون إحداث أضرار أو آثار جانبية ببقية الجسم، فإن معالجة التراكيب العشبية بالنانو يراد منها — إلى جانب زيادة الفاعلية والتركيز على الجزء المصاب — أن تُعمّ فوائدها الجسم كله، لأن المركبات النباتية بطبيعتها متعددة الوظائف والآثار، فإذا حُسِّن امتصاصها وازدادت قدرتها على النفاذ إلى الخلايا والأنسجة،

انطلقت فوائدها بصورة أشمل وأعمق. فالجزيء العشبي الذي كان يحتاج إلى جرعات كبيرة ليصل إلى هدفه يمكن — بعد تحويله إلى صورة نانوية — أن يخترق الأغشية بسهولة ويصل إلى الأنسجة دون فقد، ويعمل بفاعلية أعلى وجرعة أقل وبأمان أكبر. وقد أثبتت الأبحاث أن كثيرًا من المواد الطبيعية تزداد فعاليتها بعد تحويلها إلى نانو، وهكذا يُعاد اكتشاف الطب العشبي التقليدي بروحٍ علمية حديثة تُحرِّر فوائده الكامنة التي كانت حبيسة ضعف الامتصاص وبطء الوصول.

وما بين تلك التطبيقات المتقدمة، تكشف دراسة الجسد نفسه أن النانو ليس وافدًا عليه، بل جزء من نظامه الدقيق العميق؛ فالإنزيمات تعمل في مسافات تُقاس بجزء من المليار من المتر، والقنوات الأيونية في الخلايا تفتح وتغلق بحركة نانوية، والبروتينات تُطوى وتتشكل ضمن هندسة بالغة الإتقان. فالنانو ليس علمًا طارئًا على الجسد، بل هو لغته الأصيلة التي تعمل فينا منذ الخلق، كشفها العلم ليُبصر بعضًا من وجوه الحكمة. وفي هذا المعنى تتجلى الآية الكريمة: «وفي أنفسكم أفلا تبصرون». فما يفعله الطب بالنانو اليوم أنه يُبصر في نفسه؛ في الجسد الذي خُلق بنظام متوازن دقيق، فيحاكيه ويحسن الإفادة من سننه.

أما في السودان، فإن إدخال تقنيات النانو إلى الصناعة الدوائية يمكن أن يصنع تحولًا نوعيًا غير مكلف؛ فمعمل نانوي واحد قادر على إنتاج كريمات نانوية، مستحضرات علاجية عالية الامتصاص، مستخلصات عشبية محسّنة، وأنظمة توصيل دوائي دقيقة يمكن أن تفتح للسودان بابًا جديدًا للصناعة الطبية والاستثمار العلمي. فالنانو ليس رفاهية تكنولوجية، بل وسيلة ذكية للحاق بالعصر، وخطوة يمكن أن تجعل السودان ينتقل من مستورد للدواء إلى منتج للشفاء إن توفرت الإرادة والمؤسسية والبيئة العلمية.

إن النانو في الطب رحمة علمية تُخفف الألم وتحافظ على الحياة بأقل ضرر وأدق وسيلة. وهو شاهدٌ حي على معنى قوله تعالى: «صنع الله الذي أتقن كل شيء»، إذ في هذا الإتقان تتجلى نعمة الله في أن جعل للعلم طريقًا إلى الشفاء لا ينفصل عن سنته في الخلق. فمن الذرة إلى الخلية، ومن الجزيء إلى الجسد، تتبدى فوائد النانو: علم يرى ما لا يُرى، ودواء يختار ويعالج، وإنسان يقترب بخطى العلم من بعضِ حكمةِ الإتقانِ التي أودعها الله في أدقِّ مستويات الوجود.

وفي المقال القادم إن شاء الله ،من هذه السلسلة، نفتح بابًا آخر من الدهشة العلمية تحت عنوان: «حينما تنتج الذرة ضوءها»؛ حيث يكشف العلم كيف يمكن للجسيمات أن تُضيء من داخل الجسم لتدلّ الطبيب على أسرار الحياة والمرض معًا.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى