يوسف عبد المنان يكتب: ..خارج النص..القاهرة والخرطوم

يوسف عبد المنان يكتب: ..خارج النص..القاهرة والخرطوم
نقول الخرطوم مجازاً، ونقصد بورتسودان العاصمة المؤقتة التي لجأت إليها الحكومة بعد سقوط الخرطوم في قبضة المليشيا. وفي بورتسودان، في قلبها النابض وفندق كورال – الذي باعته الحكومة لرجل الأعمال أشرف الكاردينال بـ”رماد القروش” – انعقد الاجتماع الخماسي الساعات بين وزيري الخارجية: السفير محي الدين سالم ونظيره المصري د. بدر عبد العاطي.
بعيداً عن التصريحات الرسمية التي صدرت عن الوزيرين ونُشرت في الصفحة الأولى من صحيفة الكرامة، فإن خمس ساعات من الحوار المتواصل بين وزيري خارجية السودان ومصر، بحضور رفيع من السفراء وكبار ضباط المخابرات في البلدين، تشير بوضوح إلى أهمية الملفات التي كانت محور النقاش.
جلس الوزيران لأكثر من ساعتين على انفراد، قبل أن ينضم إليهما مساعد الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون النازحين لبحث سبل تقديم المساعدات الإنسانية لضحايا الحرب التي شنتها مليشيا الجنجويد على المواطنين في الفاشر وبارا والنهود والدبيبات.
ومن شرفة بعيدة عن غرفة الحوار – التي أُغلقت أبوابها حتى صمتت آذان جدرانها – بدا المشهد السياسي العام ينبئ بمخاضٍ جديد على صعيد الهدنة التي تسعى إليها الولايات المتحدة، ومن ورائها الإمارات. وقد أُسندت مهمة إقناع الخرطوم إلى مصر الشقيقة، التي يبدو أنها تخلت عن مواقفها السابقة وأصبحت أقرب إلى الرؤية الإماراتية لحل النزاع، بما يعيد المليشيا إلى دائرة الفعل السياسي، وهو ما يرفضه البرهان ومكونات الحكومة، إدراكاً منهم أن القبول بمثل هذا الطرح قد يُحدث اهتزازاً خطيراً يهدد بقاء السودان نفسه.
الوفد المصري الذي رافق الوزير كان كبيراً يضم عدداً من السفراء والإعلاميين من القنوات الفضائية والصحف المصرية، بينما جاء الوفد السوداني صغيراً مقارنةً به. وباستثناء تلفزيون السودان ونشاط الزميل محمد الزبير والإذاعة، غاب – أو غُيِّب – الإعلام عن الحدث. وعندما تحدث الوزير محي الدين سالم بلسانٍ مبين، كانت أمامه كاميرا التلفزيون وحدها. والسؤال: لماذا لم تهتم حتى القنوات الأجنبية بتغطية الحدث؟ وهل لغياب وزير الإعلام خارج البلاد أثرٌ في ذلك؟
الوزير محي الدين سالم أعاد للمنصب شيئاً من بريقه. فالرجل ذو خبرة طويلة، ويعرف دهاليز السلطة جيداً، وله علاقة قديمة جداً مع الرئيس البرهان تعود إلى ما قبل بلوغ الأخير رشده في المؤسسة العسكرية؛ ربما حين كان البرهان برتبة الملازم، وسالم طالباً في الجامعة. هذه الخلفية جعلته قريباً من دوائر صنع القرار، وربما صانعاً للقرار نفسه، لا مجرد ناقلٍ لسياسات الحكومة.
عند تعيينه في المنصب، توقعتُ – في مقالة أثارت جدلاً – فشل الوزير سالم في مهمته ومغادرته القريبة للوزارة، لكن الرجل أثبت حتى الآن نجاحاً ملحوظاً في إدارة ملف العلاقات الخارجية بكفاءة عالية وهدوء وثقة بالنفس. وبهذا خابت توقعاتي، وليتها تخيب أكثر، ويبقى سالم طويلاً في موقعه، لا لمصلحته الشخصية، بل لمصلحة البلاد ونجاح التجربة في ظروف شديدة التعقيد، وإمكانيات شحيحة، وموارد مالية لا تفي حتى بالتزامات السفارات في الخارج.
ومن نجاحات الوزير سالم أنه استطاع تحريك السفارات وتوجيه السفراء لعقد مؤتمرات صحافية تشرح للرأي العام العالمي ما يجري في السودان، من انتهاكات مليشيا الجنجويد لحقوق الإنسان. وقد كان لذلك أثر بالغ، خاصة من خلال نشاط سفراء السودان في بروكسل ولندن وموسكو والقاهرة، الذين نقلوا بصدق وشفافية صورة الواقع المأساوي للحرب، فشعر الناس – لأول مرة منذ سنوات – بوجود فاعل للدبلوماسية السودانية بعد أن تعرضت الخارجية للتجريف في حقبة التفكك، وتوالت عليها الولاءات المزدوجة بين الجيب والحزب.
اليوم، ومع الوزير محي الدين سالم ووكيله الشاب معاوية عثمان، تبدو الخارجية في طريقها إلى استعادة دورها الطبيعي في خدمة قضايا الشعب السوداني.
ومع ذلك، تبقى مباحثات بورتسودان الأخيرة تطرح علامات استفهام عديدة حول ما دار طويلاً في غرف فندق كورال – مارينا حالياً – دون أن تخرج إلى العلن إجابة واضحة.





