إشتياق الكناني تكتب : طيف في العيادة… وأرض تحترق

إشتياق الكناني تكتب : طيف في العيادة… وأرض تحترق
تبدو أعراض المرض بالنسبة للدكتور صلاح عادية، فبعد آلاف الحالات التي مرَّ بها، غدا كل شيء مجرد ملف طبي آخر.
أما عندي، فقد بدا المرض كوحشٍ يلتصق بجسدي وروحي، يشل حركتي ويخنق روحي.
تساءلتُ حينها: إن كنت أنا بهذا الضعف، فكيف بالأطفال؟ وكيف بالمسنين؟ كيف بأهل أم درمان والخرطوم جميعًا، وهم يواجهون الأوبئة والحرب في آن واحد؟
حتى وزارة الصحة اضطرت لفتح مراكز للعزل، لأن المرض صار كالنار المستعرة.
أكتب هذا الحديث لبناتي، وللبنات اللواتي سيصنعن المستقبل…
—
حين يستعد الجنود للدفاع عن الأرض وتندلع الحرب، لا تفرق بين بريء ومذنب. تأتي فجأة، كشرر متطاير يحرق كل شيء؛ اليابس والأخضر معًا.
هذا ما فعلته الحرب بوطني، حرب لم تنته بعد.
يدفع سكان الخرطوم الثمن مرتين: مرة بالأمراض والأوبئة، ومرة بالرصاص والمسيرات.
نترك لكم وطنًا مترنحًا، ضعيفًا، مثقلاً بالجراح، يقاوم استعمارًا جديدًا ، وجوهًا نعرفها ويعرفوننا، لكن القبيلة والتعصّب فرّقا بيننا. أصبح الصوت الأعلى للبندقية، فإن لم تكن مع أخيك أو ابن عمك، وُجِّه السلاح نحوك بلا رحمة.
هذه حروب القرن الحديث… ساحات لتجريب الأسلحة المتطورة، وصراع دول كبرى لا تهتم إلا بإخضاع الدول الضعيفة، تلك التي تحاول الوقوف على قدميها بثرواتها وشعوبها ومياهها العذبة التي يطمع بها العالم.
والسودان في قلب هذا الصراع، يُؤخذ أهله إلى محرقة لا ندري من يخرج منها، ولا إلى أين تقودنا هذه الحرب العبثية.
—
في خضم كل هذا، كنت أنا أحاول استيعاب تشخيص الدكتور صلاح، وأتأمل أكياس المحاليل الورديّة التي تنتظر وريدي.
الإرهاق أكل روحي، حتى شعرت أن جسدي قد شُخّ.
كل ما تمنيت أن يغادرني المرض، أن تعود روحي إلي، وأن أعود أنا إلى نفسي.
العلاقة مع المرض أشبه بعلاقة من طرفٍ واحد: هو يتمسّك بك بقوة، وأنت تريد الهروب بأي شكل.
لكن كيف؟ وكيف يكون الهروب؟
قال الدكتور صلاح: *“العلاج يحتاج صبرًا… أسبوعين، ثلاثة أسابيع، وربما أكثر.”*
الأصحاء يظنون أن الأمر قصير، أما المريض، فيرى فيها قطارًا يعبر نفقًا مظلمًا لعامين أو ثلاثة، بلا ضوء ولا نهاية.
وحدهم المتعافون لا يدركون نعمة العافية… تلك النعمة التي تساوي ألف نعمة لو علموا.
بدأت رحلتي: أدوية لجرثومة المعدة، علاج للارتجاع، ثم قرحة الاثني عشر.
ثلاثة أفلاكٍ تدور فيها روحي، ثلاثة أطوار من الألم والمعاناة.
—
وفجأة، وسط ضجيج العيادة، ظهرت صديقتي الصغيرة، رفيقة وحدتي.
جلست بجانبي، وطرقت طفولتها قلبي بصوتٍ رقيق:
ــ *”هل أنتِ بخير؟”*
فتحت عيني، وقلت: *”لست بخير… ماذا عنك؟”*
رفعت خصلة من شعرها، عدّلت جلستها، وكان فستانها الأزرق مزينًا بفراشاتٍ حمراء زاهية.
ثم قالت بثقة طفولية صادقة:
ــ *”سأكون بخير حين تكونين أنتِ بخير.”*
أي حملٍ هذا الذي تحمله عني هذه الصغيرة؟
قطع حديثنا صوت هاتفٍ قريب، أغنية لإبراهيم عوض:
*“متيّن يا اللّه تجمعنا… قريب يا اللّه تجمعنا.”*
جذب الصوت انتباه الجميع. كلنا مشتتون في هذه الأرض، لاجئون بعيدون عن بيوتنا وأحبابنا، وكم من قريب صار بعيدًا في أقاصي الدنيا.
السودان… كل تفصيل فيه يعني الحياة.
—
غادرتني الطفلة دون وداع، وغادرت أنا عيادة الدكتور صلاح بلا وداعٍ أيضًا.
كأني لم أكن هناك يومًا، وكأني لم أمرض يومًا، وكأن ما رويته ليس عني… بل عن طيفٍ مرَّ بالمكان.




