مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..بين العقد الاجتماعي والإسلام: من سيادة الشعب إلى سيادة الحق

 محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..بين العقد الاجتماعي والإسلام: من سيادة الشعب إلى سيادة الحق

 

 

في منتصف القرن الثامن عشر، ظهر كتابٌ أحدث زلزالًا فكريًا في أوروبا والعالم الغربي: العقد الاجتماعي (The Social Contract) ، الذي ألّفه الفيلسوف السويسري الفرنسي جان جاك روسو عام 1762. كان روسو من أبرز فلاسفة التنوير الذين مهّدوا للثورة الفرنسية، وقد شكّل هذا الكتاب أحد أعمدتها الفكرية، إذ دعا إلى إعادة تعريف السلطة والشرعية على أساس إرادة الشعب لا إرادة الملوك. وقد تُرجم الكتاب إلى معظم لغات العالم، وأثّر في نشوء الدساتير الحديثة والفكر الديمقراطي الغربي، حتى عدّه كثيرٌ من المفكرين «إنجيل الثورة الفرنسية» ومصدر الإلهام الأول لمفهوم السيادة الشعبية، الذي انتقل لاحقًا إلى أوروبا كلها ثم إلى العالم الجديد.

حين كتب روسو هذا الكتاب، وضع حجر الأساس لفكرة الدولة الحديثة. لقد جعل السيادة للشعب، وأكد أن الشرعية لا تقوم على القوة ولا على الحق الإلهي المزعوم للملوك، وإنما على عقدٍ يبرمه الناس بينهم ليتنازلوا عن حقوقهم الفردية لصالح “الإرادة العامة”. ومن هنا جاءت الديمقراطية الحديثة بشعارها المعروف: الشعب مصدر السلطات.

لكن إذا نظرنا إلى الرؤية الإسلامية وجدنا أنها تتجاوز روسو من حيث العمق والشمول. فالإسلام سبق بفكرته عن أن الحاكم وكيل عن الأمة لا مالك لها، وأنه مسؤول أمامها وأمام الله معًا. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم تولّى الخلافة: «أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم». هذه العبارة القصيرة تؤسس لعقدٍ اجتماعي أشمل من عقد روسو؛ فهي تجعل الشعب شريكًا، وتجعل الشرعية مرتبطة بالعدل والالتزام بأوامر الله، لا بمصلحة دنيوية فحسب.

روسو جعل الإرادة العامة هي أساس القانون، والإسلام جعل العدل هو الأساس الذي لا يُقام حكم بدونه. فالقرآن يقرر: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾، ويقول: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾. في حين أن الإرادة العامة قد تنحرف أحيانًا وتتأثر بأهواء الأكثرية، فإن الإسلام يضع ميزانًا ربانيًا فوق الجميع، فلا تتحول إرادة الأغلبية إلى استبداد جديد.

ومن حيث الحرية، رأى روسو أن الحرية الحقيقية هي أن يخضع الفرد للقانون الذي ساهم في وضعه. أما الإسلام فيرى أن الحرية الحقيقية هي أن يتحرر الإنسان من عبودية البشر ليكون عبدًا لله وحده، ثم يعيش في ظل شريعةٍ تضمن حقوقه وتصون كرامته. وقد لخّص عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الفلسفة حين قال: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟».

أما الشورى، فهي في الإسلام أصلٌ من أصول الحكم، قال تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾، وهي تعني مشاركة الناس في صناعة القرار، لكنها ليست غايةً بذاتها، بل وسيلة لإقامة الحق ومنع الاستبداد. وذلك ما يميزها عن الديمقراطية المطلقة، التي قد تجعل رأي الأغلبية قانونًا وإن ناقض العدالة والحق.

إضافة إلى ذلك، جعل روسو العقد الاجتماعي عقدًا بين الأفراد فقط، بينما الإسلام يجعل البيعة عقدًا ثلاثيّ الأبعاد: بين الحاكم والشعب والله تعالى. وهذا البعد الإيماني يضفي على السياسة قيمة أخلاقية وروحية، ويحوّلها من مجرد صراع مصالح إلى أمانةٍ ومسؤولية.

إن روسو قدّم رؤيةً ثوريةً في زمانه نقلت السيادة من يد الملوك إلى يد الشعوب، لكن الإسلام قدّم رؤيةً أكمل تربط الحرية بالعبودية لله، والسيادة بالعدل الإلهي، والشورى بالقيم الأخلاقية، في إطارٍ كُلّيٍ شاملٍ تتكامل فيه الشرائعُ والشعائرُ والعدالةُ والأخلاق.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى