محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..حين يمتلئ الجهل بالثقة

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..حين يمتلئ الجهل بالثقة
الإنسان لا يولد جاهلًا فقط، بل يزداد جهلًا كلما ظنّ أنه يعلم. فالجهل ليس فراغًا في العقل، بل امتلاءٌ بالمفاهيم الخاطئة والمعلومات غير الدقيقة واليقين الزائف. والعقل البشري لا يحتمل الفراغ، فإن لم يملأه العلم الصحيح ملأته الخرافة، وإن انقطع عن الوحي غرق في التيه والهوى. ومن هنا جاء أخطر أشكال الجهل: الجهل المركّب؛ أن يجهل الإنسان الشيء ولا يعلم أنه يجهله، فيظن نفسه عالمًا، ويزداد ضلالًا بثقته الزائفة فيما يظنه حقًا. لقد تقدّم العلم في كشف قوانين الكون، لكنه عجز عن أن يجيب عن سؤال الغاية. وحين غاب الوحي عن قيادة العقل، بدأ الإنسان يتيه في صحراء المعلومة بلا بوصلة. ومع كل إنجازٍ علمي، ظنّ أنه استغنى عن الله، فازداد تخبّطًا في نفسه وسلوكه. فالعلم إذا لم يهده وحي، تحوّل إلى سلاحٍ أعمى، والعقل إذا لم يستنر بنور الإيمان، انقلب إلى آلةٍ للضلال لا للهداية.
وهكذا نشهد في زماننا المفارقة الكبرى: إنسانٌ يمتلك المعرفة كلها، لكنه فقد الحكمة، يسبر أغوار الذرّة والمجرة، ويعجز عن معرفة ذاته، يصنع الآلة التي تفكر ولا يستطيع ضبط فكره، يخلق الذكاء الاصطناعي ويعجز عن ترويض غرائزه البدائية. فالعقل حينما ينفصل عن الوحي، يفقد توازنه، ويقع في تناقضات لا تصدّق. ترى الإنسان يتباهى بتقدّمه وهو يهدم فطرته، يعبث بجنسه، ويبدّل خلقه، ويخترع نظرياتٍ تمسخ الإنسان إلى كائنٍ محايد لا ذكر ولا أنثى، ويتباهى بقدرته على تحويل البشر إلى صورٍ مشوّهةٍ للحيوانات، يزرع الأنياب ويشوّه وجهه ليشبه الكلاب أو القطط أو الزواحف، وكأنّه يهرب من إنسانيته إلى بهيميته. ويرى بعضهم في ذلك حرية، فيقدّسون الانحراف ويسمّونه حقًا. حتى إنك لتجد بين هؤلاء من يُعدّ من كبار العلماء والبروفيسورات في الجامعات الكبرى، يتخذون من أصنام الحرية المطلقة آلهة يعبدونها، ويُحاكمون إليها كل شيء، فينكرون الفطرة باسم التنوير، ويهدمون القيم باسم التجريب، ويزعمون أن الإنسان سيد نفسه، لا ربّ فوقه ولا وحي يهديه، وقد جعلوا من العقل المستقل دينًا جديدًا، ومن الأهواء دستورًا مقدسًا، ومن المادّة محرابًا يُصلّى إليه.
وما هو أدهى وأعجب أن بعض هؤلاء العلماء أنفسهم — ممن بلغوا مراتب عليا في الفيزياء أو الطب أو الفلسفة — قد عادوا عمليًا إلى عبادة الأصنام التي كان الإنسان الأول يسجد لها. ترى في مختبرات وجامعات الشرق والغرب من يركع أمام تماثيل بوذا، ويضع أمامها الزهور والشموع، بل يقيمون لها طقوسًا فيزيائية تُسمّى “تأملًا علميًا” أو “توازن طاقة”، وهم في حقيقتهم يسجدون لحجرٍ صنعوه بأيديهم، بعد أن ظنوا أنهم تجاوزوا عصور الوثنية. فيعبد أحدهم ذرة الطاقة، وآخر يعبد دمية بوذا، وثالث يقدّس رموز اليوغا، وقد نُسب إليهم العلم زورا وهم في الجوهر عائدون إلى الجاهلية الأولى.
لقد حذّر الوحي من هذا المسار منذ البدء، حين قال الله تعالى: «ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى.» فالضنك ليس فقرًا ماديًا، بل اضطراب نفسي وفقدان للمعنى. وحين تُلغى الروح من المعادلة، يصبح الإنسان ثريًا بالمعرفة فقيرًا بالهداية، قويًا بالجسد ضعيفًا في الضمير. ولقد حرم الوحي ما يضرّ الإنسان، فثبت بالعلم أنه لم يكن منعه تعبدًا فحسب، بل رحمة وحماية. فالخمر التي كانت تُشرب للمتعة أثبت الطب الحديث أنها سمّ يدمّر الكبد والمخ والجهاز العصبي، والميسر الذي كان تسليةً للثراء السريع ثبت أنه مرضٌ نفسي يولّد الإدمان واليأس وفقدان الإرادة، والزنا الذي حسبه الناس حرية كشف العلم أنه أصل الأمراض الفيروسية الخطيرة، والربا الذي رآه الناس نماءً صار أصل الأزمات الاقتصادية التي تفقر الشعوب، وقطع الأرحام الذي استُسهل صار سببًا لاكتئابٍ نفسي وانهيارٍ اجتماعي. وهكذا جاء العلم تابعًا ليؤكد ما قرّره الوحي قبل قرون.
لكن حين فقد الإنسان هذا الميزان، صار يرى الشر خيرًا والضر نفعًا، وصار يبتكر سلوكياتٍ لا يجرؤ الحيوان عليها. ترى أحدهم يمزّق جلده بالوشوم، ويغرس في جسده المسامير، ويعبّر عن تمرده بالتحطيم والتشويه، ويسمّي ذلك فنًا أو حرية. وتسمع عن طقوسٍ شيطانية تُقام في بعض المجتمعات المتقدمة علميًا، تُطفأ فيها الأنوار وتُرفع فيها رموز إبليس، ويُعبد الشيطان علنًا باسم الحرية الدينية أو الفنّ المعاصر. أليس هذا هو الجنون المقنّن الذي حذّر منه الوحي؟ أليس هذا هو الانفصام بين العلم والعقل والإيمان؟ لقد قال الله تعالى: «أفرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا.» وقال سبحانه: «ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين.» فحين يعبد الإنسان هواه، يبرر كل انحراف باسم الحرية، ويجعل من الفساد تقدمًا ومن الانحطاط حضارة. وصار المال والبنون — بعد أن كانا في نظر الناس متعةً وزينة — عذابًا أليمًا يعذّب الله بهما من انصرف قلبه عن الحق، كما قال تعالى: «ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا…»، فحتى النعم تتحول إلى نقم إذا فُقد ميزان الهداية، ويصبح الثراء شقاءً، والذرية حسرة، والعلم نقمةً على صاحبه إن حاد به عن سواء السبيل.
إن النجاة من هذا التيه لا تكون إلا بالعودة إلى الوحي، لا كبديلٍ عن العقل بل كهادٍ له وحارسٍ عليه. فالوحي لا يُطفئ شعلة العقل، بل يوجّهها نحو ما ينفع، ولا يلغيه، بل يحرّره من عبودية الهوى. ومن تدبّر القرآن وجد فيه ميزانًا دقيقًا بين العلم والإيمان، يضع لكل شيء قدره. فالخروج من الجهل المليء بالثقة لا يكون بتكثير المعارف وحدها، بل بالعودة إلى الكتاب الذي يهدي للتي هي أقوم، وإلى السنة التي فصّلت القول والفعل والهدي. ففيهما يجد الإنسان يقينه، والعقل توازنه، والعلم غايته التي لا تُضل. ومن أعرض عنهما، ضلّ في ظلماتٍ بعضها فوق بعض، وإن ظن أنه في النور.





