مقالات

منى أبوزيد تكتب: ..هناك فرق .. أضواء الحاكم وأتوار الخليفة..!

 منى أبوزيد تكتب: ..هناك فرق .. أضواء الحاكم وأتوار الخليفة..!

 

“ليس في التصوف ما يُذهب العقل، بل ما يُهذّبه. لكن العقول المتورمة بالغرور تظنّ التواضع ضعفاً والسماحة سذاجة”.. الكاتبة..!

زيارة السيد رئيس الوزراء د. كامل إدريس للخليفة عبد الوهاب الكباشي بمقر إقامته في بورتسودان، لم تكن مجرد زيارةٍ بروتوكولية لرجل دين، بل كانت لحظة رمزية لعودة وطن تمزقه الحروب إلى التعويل على جذوره الروحية بعد طول غياب..!

لكن السخرية في مواقع التواصل الاجتماعي، والتنمّر على مشهد تبادل تقبيل اليدين بين رئيس الوزراء وخليفة السجادة، كشفا أكثر مما أخفيا.كثيرون رأوا في المشهد مظهراً من مظاهر الرجعية، ولم يدركوا أنهم يسخرون من آخر خيوط النسيج الاجتماعي الذي ظلّ يرقّعه التصوف على مدى قرون في هذه البلاد..!

وإن كان لهذا المشهد من دلالة تحسب للدكتور كامل إدريس – بعيداً عن كونه رئيسا للوزراء – فهي دلالته على أنه رجل سوداني أصيل يعرف قدر الصوفية أهل الطريق، ولا يعرف قدر الرجال إلا الرجال..!

فالسودان، قبل أن يُوحده الاستقلال – وحين كانت القبائل تتناحر والأعراق تتنافر – وحدته السجادات قبل الأحزاب، ووصلت الطرق الصوفية بين أهله حين عجزت الجغرافيا والسياسة. هكذا عاش السودان قروناً محمولًا على أكتاف أوليائه..!

الطرق الصوفية لم تكن يوماً مذاهب دينية بل مدارس إنسانية تُربّي القلب على الاتزان، وتعلم الناس أن القوة في السكينة، وأن الكرامة لا تقاس بالهيبة، بل بعمق الرحمة. ولأن الناس فقدوا ذلك المعنى، صاروا يظنون أن كل انحناءة ضعف، وأن كل توقير نفاق، وأن كل قداسة وهم..!

كان الشيخ هو صمام الأمان حين تفشل الدولة، والزاويةُ بيتَ الدولة حين تغيب المؤسسات. في رحاب أولئك الشيوخ تربى السودانيون على التسامح، وتعلّموا أن الكرامة ليست في الصوت العالي، بل في اليد الممدودة بالصف..!

الطرق الصوفية لم تكن يوماً ديناً داخل الدين، بل كانت دوماً تربيةً للقلوب حين قست السياسة على الأرواح. وفي حضرة الشيوخ والمريدين كان القبلي والجهوي والطبقي يذوب، كما يذوب الملح في الماء. ولهذا، فإن الذين يستخفون اليوم بمشهد كهذا لا يدركون أنهم يستهزئون بذاكرة وطن..!

الشيخ عبد الوهاب الكباشي نفسه لم يكن يوماً من طلاب المظاهر ولا من حراس الألق. كان شاباً يافعاً وممتلئاً بالحياة تخرج في جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة عندما عاد ليجد نفسه بعد انتقال والده إلى دار الحق، أمام امتحان الخلافة على السجادة..!

وعلى الرغم من اتفاق المريدين على مبايعته نأى عن الزعامة، ويمم وجهه نحو بادية الكبابيش. وحينما نجحوا في إقناعه عاد وهو يحمل نور العارفين. فكان إذا جلس بين الناس، شعروا أن الهواء أنقى، وأن الكلام أهدأ، وأن الله أقرب..!

ذلك هو مقام الصوفي الحقيقي، رجل يهرب من المجد فيتبعه المجد من حيث لا يدري. رجل يخاف عظم المسؤولية أكثر مما يخاف الموت، ويعلم أن التصوف ليس رقصاً على أطراف الثوب، بل خضوع صادق لله في زمن تكاثر فيه الوعاظ وقل الصادقون..!

إنّ السخرية من أهل الطريق ليست موقفاً نقدياً، بل عرض من أعراض فقدان البوصلة الروحية. فليضحك الساخرون إن شاؤوا، ولكن ليعلموا أن السودان الذي بات يسخر من أوليائه يفقد بذلك آخر ما تبقّى من روحه..!

هل يريدون أن تُطفأ انوار السجادات، وأن تُسكت الأصوات التي تُصلح بالكلمة وتُطعم بالنية؟. سيكتشفون عندها إذن أن ما فقدوه لم يكن طقوساً صوفية، بل دورعاً أخلاقية ظلت يحميهم من أنفسهم..!

إنّ البركة لا ترى في وجوه الحكام ولا في بريق الكاميرات، بل تنبعث من طاقات أولئك الذين يصلون كل ليلة بصمت، لكي يبقى هذا الوطن حياً. ولا شك أن من يجهل قراءة بوصلة أنوارهم، يُحرم من بركاتهم!.

 

 

munaabuzaid2@gmail.com

 

المصدر:  صحيفة الكرامة

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى