محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..أعجوبة السودان (3 من 3): الجاموس من مفاتيح التكامل الشامل

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..أعجوبة السودان (3 من 3): الجاموس من مفاتيح التكامل الشامل
امتدادًا لما عرضناه في المقال السابق «أعجوبة السودان: نحو بعث الدورة الزراعية المتكاملة»، نؤكد أن إصلاح مشروع الجزيرة، وهو الموصوف بالإعجوبة، لا يمكن أن يتحقق إلا عبر شراكةٍ ثلاثيةٍ رشيدة تجمع بين الحكومة مالكة البنية التحتية الكلية للمشروع، والمزارع مالك الأرض أو القائم عليها، وشركةٍ قابضةٍ دوليةٍ كبرى ذات قدراتٍ علميةٍ وفنيةٍ وماليةٍ وتسويقيةٍ وضمانيةٍ بمعاييرٍ عالمية، تتعاقد مع الدولة لإدارة المشروع والإشراف الكامل عليه من وضع الخطط الاستراتيجية إلى التمويل والإرشاد الفني والمتابعة الميدانية من البذرة حتى الحصاد، مرورًا بالتسويق وتوزيع العائد وفق عقودٍ محكمةٍ وشفافة، دون أن يُحمَّل المزارع أي عبءٍ مالي، بل يُكلف فقط بجهده والتزامه بالحزمة التقنية المعتمدة.
وتتولى هذه الشركة وضع وتنفيذ الخطط المتكاملة عبر أذرعٍ متخصصةٍ لكل القطاعات: المحصولية، والبستانية، والحيوانية، والصناعات التحويلية، مع الإشراف الفني الكامل على منظومة الريّ وتشغيلها وصيانتها.
وفي ضوء هذا التصور الشامل، تأتي فكرة إدخال الجاموس النهري كمكوّنٍ إنتاجيٍّ جديدٍ في منظومة مشروع الجزيرة، بل وسائر المشاريع الزراعية الكبرى، فهي ليست اقتراحًا فرعيًا، بل من مفاتيح التكامل الزراعي–الحيواني–الطاقي التي تُعيد المشروع إلى طبيعته كنظام إنتاجٍ متكاملٍ لا كمزرعةٍ تقليدية.
فالجاموس حيوانٌ قويٌّ يتحمّل الحرارة والرطوبة، ويتكيّف مع البيئات المائية الطينية التي يجد فيها راحته الطبيعية، مما يجعله أصلح من الأبقار المستوردة ذات السلالات الباردة التي لم تلائم تمامًا ظروف السودان المناخية. وهو في الوقت نفسه كائنٌ اقتصاديٌّ من الطراز الأول، ينتج حليبًا عالي الدسم تتراوح نسبة الدهون فيه بين 6% و8%، وهو مثالي لصناعة الأجبان والزبدة والمثلجات الفاخرة، فضلًا عن كونه مصدرًا جيدًا للحوم والجلود والطاقة الحيوية. ويمكن بسهولة تقليل دسم حليبه بواسطة أجهزة الفصل لإنتاج حليبٍ منزوعٍ أو قليل الدسم يُعبّأ تجاريًا كحليب الأبقار، مع الاستفادة من الدهن المنزوع في تصنيع الزبدة الفاخرة، فيتحقق بذلك عائدٌ مزدوجٌ من كل لتر لبن جاموسي.
وتنبع أهمية الجاموس في جانب الطاقة الحيوية من قدرته على إنتاج طاقةٍ متجددةٍ من مخلفاته اليومية دون كلفةٍ إضافية، إذ تتفوق مخلفاته كماً ونوعاً على مخلفات الأبقار في المحتوى العضوي والرطوبة، مما يجعلها أكثر كفاءةً في إنتاج الغاز الحيوي والسماد العضوي معاً. فالمخلفات الناتجة عن تصنيع الألبان — مثل ماء الشرش (الواي) المتبقي بعد صناعة الجبن والزبدة — يمكن تخميرها ميكروبيًا لإنتاج غاز الميثان، في حين تتحول فضلات الجاموس العضوية نفسها عبر عملية التحلّل اللاهوائي في خزاناتٍ مغلقة إلى وقودٍ حيويٍّ نظيفٍ يُستخدم في تشغيل المضخات أو توليد الكهرباء أو الطهي الريفي، مع بقاء ناتجٍ صلبٍ غنيٍّ بالعناصر الغذائية يصلح كسمادٍ عضويٍّ عالي الجودة. وهكذا يصبح الجاموس حلقةً محوريةً في دورةٍ بيئيةٍ مكتملةٍ يتولّد منها الغذاء والطاقة والسماد في منظومةٍ واحدةٍ متكاملة، تمثل جوهر الزراعة الحديثة المستدامة التي يتطلع إليها السودان.
وعند المقارنة العلمية بين تربية الجاموس والأبقار في بيئة السودان الوسطى، نجد أن الجاموس يتفوّق في الكلفة والتحمّل والإنتاجية النوعية. فمتوسط استهلاكه اليومي من العلف الأخضر أقل بنسبة 25 إلى 30% من الأبقار ذات الحجم نفسه، إذ تكفيه الأعلاف الخشنة أو متوسطة الجودة، ويمكنه هضم السيلاج ومخلفات القطن والذرة بفضل قدرته الهضمية العالية، بينما تحتاج الأبقار إلى أعلافٍ مركزةٍ مرتفعة الكلفة وأكثر حساسيةً لنقص البروتين والمعادن. أما من حيث الإنتاج، فإن متوسط إنتاج الجاموس من اللبن يتراوح بين 8 و10 لتراتٍ يوميًا بنسبة دسمٍ مرتفعة، بينما تنتج الأبقار المحلية نحو 4 إلى 6 لتراتٍ بنسبة دسمٍ لا تتجاوز 3.5%. ومن حيث اللحوم، فإن الجاموس أكبر حجمًا وأكثر امتلاءً بالعضلات، إذ يبلغ وزن الذكر البالغ نحو 600 إلى 700 كيلوجرام مقارنةً بمتوسط 400 إلى 500 في الأبقار المحلية، كما أن نسبة التصافي في الجاموس أعلى بحوالي 10%. ولحمه أكثر احمرارًا وأقل دهونًا وكولسترولًا، مما يجعله مرغوبًا صحيًا وتجارياً، خصوصًا في الأسواق التي تفضّل اللحوم منخفضة الدهون.
ويتميّز الجاموس أيضًا بمقاومته العالية للأمراض المدارية وانخفاض معدلات النفوق فيه إلى أدنى الحدود، بفضل تكوينه الجسدي وقدرته الطبيعية على تنظيم حرارته الداخلية بالاستحمام في المياه أو الطين، مما يجعله أكثر استقرارًا صحيًا من الأبقار المهجنة أو المحلية على السواء. وهذا يعني أن الجاموس في بيئة السودان سيكون في وضعٍ أفضل حتى من مثيله في الهند أو مصر، إذ تتوافر له المراعي الطبيعية، والمياه الدافئة، وقلة الكثافة الحيوانية التي تحدّ من انتشار الأوبئة، مما يجعل استدامته الإنتاجية أعلى وعوائده أكثر أمانًا على المدى الطويل.
ولم يكن هذا التفوق البيولوجي والفسيولوجي خافيًا على الدول الأخرى؛ فالهند ومصر معًا تُعدّان اليوم موطنَي الريادة في تربية الجاموس النهري عالميًا، إذ يوفّر الجاموس أكثر من نصف إنتاج الهند من الألبان، ويتجاوز في مصر نسبة السبعين بالمائة من الإجمالي، وهو المنتج الرئيس للألبان البلدية عالية الجودة. ومع ذلك، ظلّ للأبقار حضورها هناك بحكم التنوع الاقتصادي والذوقي وتعدد الصناعات، لا لجدوىٍ إنتاجيةٍ تتفوق على الجاموس. أما في السودان، فإن العوامل البيئية والاقتصادية جميعها ترجّح الكفة لصالح الجاموس وحده: فالمناخ أكثر ملاءمةً، والمياه أوفر، والمساحات أوسع، والسكان أقل كثافة، والأعلاف الخام أرخص وأكثر وفرة، بينما البنية التحتية للأبقار المهجنة والطاقة اللازمة لها أضعف وأعلى كلفة. أي أن ما جعل الجاموس شريكًا في الهند ومصر، هو نفسه ما يجعله في السودان مرشحًا للسيادة الكاملة في إنتاج الألبان واللحوم والجلود والطاقة الحيوية، خاصة في المشاريع الكبرى مثل الجزيرة وسنار والرهد والنيل الأبيض، حيث تتكامل مقومات البيئة والموارد في نموذجٍ إنتاجيٍ وطنيٍ واعد.
وهكذا يتضح أن الجاموس أكثر توافقًا مع بيئة السودان من حيث المناخ والمياه والتربة، بل ويُعدّ الحيوان الوطني الأمثل له. فالسودان يجمع بين حرارة الهند ورطوبة دلتا النيل، وهما البيئتان الأصليتان للجاموس النهري، مما يجعل معظم مناطقه الزراعية ملائمةً تمامًا له. وفي ولاياتٍ مثل الجزيرة والرهد وسنار والنيل الأبيض، حيث التربة الطينية والمياه الدائمة، يمكن إقامة مزارع جاموسية متكاملةٍ مرتبطةٍ بالزراعة والبستنة والطاقة الحيوية. ولعل ولاية نهر النيل تمثل نموذجًا خاصًا لذلك؛ فهي رغم مناخها شبه الجاف
تمتاز بوفرة المياه النيلية والجوفية وبمخلفاتٍ زراعيةٍ ضخمة من الذرة والقمح والبرسيم والنخيل، وهي مواد علفية مثالية للجاموس الذي يهضم الألياف الخشنة بكفاءةٍ عالية. ويمكن إنشاء أحواضٍ صغيرةٍ أو مناطق غمرٍ اصطناعية قرب المشاريع الزراعية في دارمالي والدامر وعطبرة لتوفير بيئةٍ مائيةٍ موسميةٍ منخفضة الكلفة، كما أن قربها من الأسواق المركزية في الخرطوم يجعلها قاعدةً مثاليةً للإنتاج والتصنيع والتوزيع. وبذلك يمكن لولاية نهر النيل أن تصبح مركزًا وطنيًا لإكثار الجاموس المحسَّن ونموذجًا متكاملًا للتنمية الزراعية الحيوانية الذكية.
ويمكن للسودان أن يتبنى برنامجًا وطنيًا لتوطين الجاموس النهري بالاستفادة من الخبرات الهندية والمصرية. فمن الهند يمكن استجلاب السلالة الأشهر عالميًا، المورّا (Murrah)، المعروفة بغزارة اللبن وقدرتها على تحمّل الحرارة والرطوبة العالية، ومن مصر يمكن الاستفادة من نظم الإدارة والتسويق والتلقيح الاصطناعي. غير أن التركيز على التعاون الهندي تحديدًا هو الأجدى علميًا وعمليًا لعدة أسباب موضوعية؛ فالهند هي أصل الجاموس النهري في العالم وصاحبة أكبر مخزون وراثي مسجّل رسميًا لدى منظمة الأغذية والزراعة (FAO)، وتمتلك أعلى قدرات بحثية وتقنية في مجال تهجين الجاموس وتحسينه وإكثاره
صناعيًا، وتصدّر بنوكها الوراثية وتقنياتها إلى عشرات الدول بما فيها مصر نفسها، كما أن التعاون مع الهند أقل تكلفة وأكثر مرونة نظرًا لخبرتها الطويلة في دعم الدول النامية بالمواشي والسلالات واللقاحات. ولذلك فإن تبنّي نموذج إدخال الجاموس الهندي وتوطينه في بيئة السودان لا يعني استيرادًا عابرًا، بل تأسيسًا علميًا لسلالةٍ سودانيةٍ جديدةٍ ناتجةٍ عن تأقلم الجاموس الهندي في البيئة المحلية عبر برامج تهجينٍ وتربيةٍ مدروسة، تضع السودان في مسار إنشاء أول سلالة جاموسيةٍ وطنيةٍ ملائمةٍ لمناخه وتربته وموارده.
وتشير التجارب العالمية إلى أن إنتاجية الجاموس الواحد تتراوح بين ألفين وألفين وخمسمائة لترٍ من اللبن سنويًا بنسبة دسمٍ تفوق ضعف الأبقار العادية، وأن العائد الصافي من الرأس الواحد قد يتجاوز الألف دولارٍ سنويًا في الظروف المشابهة، مما يعني أن إدخال خمسين إلى مئة ألف رأسٍ تدريجيًا يمكن أن يخلق قطاعًا لبنيًا ضخمًا يغطي احتياجات السودان ويفتح باب التصدير الصناعي. وإذا أضيف إلى ذلك العائد من اللحوم والجلود والطاقة الحيوية، فإن الناتج يمكن أن يرفد الاقتصاد الوطني بمليارات الدولارات، ويخلق مئات آلاف فرص العمل المباشرة للشباب والنساء في الريف، مع تشغيل الصناعات التحويلية المرتبطة بالألبان والأسمدة والطاقة.
ولكي يتحقق هذا التكامل على نحوٍ فعّال، تُقام وحداتٌ جاموسيةٌ نموذجية داخل التفاتيش الكبرى في المناقل وود مدني والحوش والمسلمية، ضمن منظومة الشراكة الثلاثية المقترحة، تُدار وفق نظامٍ تعاقديٍ شفافٍ يربط المزارع بالشركة المشرفة ضمن إطار الحوكمة والرقمنة، وتُستخدم فيها تقنيات الريّ الذكي والرقابة الرقمية لمتابعة الأعلاف وجودة المياه والإنتاج اللحظي، على أن تكون هذه الوحدات نواةً لتوسعٍ مستقبليٍ على مستوى السودان بأكمله. فالمياه موجودة، والأعلاف متوفرة، والبنية التحتية حاضرة، وما ينقص هو الإرادة المؤسسية المنظمة.
ولا سبيل آخر لنهضة مشروع الجزيرة سوى هذه الشراكة الثلاثية؛ فالتعويل على الدعم الحكومي أو الإدارة التقليدية أو التعاونيات المحلية ضربٌ من التمنّي، إذ أثبت الواقع والمنطق معًا استحالة نجاح أي من تلك الصيغ. وحتى لو أُبرم تعاقد بين الدولة والمزارع وشركات وطنية محلية، فقد ينجح جزئيًا، لكنه سيظل محدود الأثر، مكبَّلًا بالعقبات التمويلية والإدارية. ومع ذلك، يمكن لاحقًا ومع إصلاح البيئة الكلية وتطور القدرات الوطنية، أن تُسند إدارة المشروع تدريجيًا إلى شركاتٍ سودانيةٍ خاصةٍ تتمتع بنفس المعايير الفنية والمالية والإدارية للشركات الأجنبية، أو تتفوق عليها، في إطار انتقالٍ طبيعيٍ من الشراكة الدولية إلى الوطنية الراشدة.
ولا شك أن كل هذا البناء المؤسسي المتكامل لن يرى النور أو يستمر ما لم تُعالج بيئة السودان الكلية عبر التحرير الاقتصادي الشامل، والحوكمة، والرقمنة، ونفاذ القانون، فذلك هو الإطار الذي يتيح لمثل هذه الشركة أن تدخل من باب الاستثمار إلى السودان، ويمنحها القدرة على البعث والإدارة والابتكار، بل ويجعلها النموذج المتكرر لبعث ونجاح واستمرار كل مشاريع السودان الأخرى في منظومةٍ واحدةٍ متسقةٍ يكمل بعضها بعضًا.
فبغير هذه الشراكة المؤسسية، وبدون بيئةٍ محرَّرةٍ راشدةٍ تسندها الحوكمة والرقمنة المتكاملة، لن تعود الجزيرة إلى عظمتها، ولن ينهض السودان من كبوته.





