مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..الاستثمار طريق النهضة

 محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..الاستثمار طريق النهضة

 

 

الاستثمار ليس مجرد أموال تُضخّ في الأسواق أو مشاريع تُشيَّد هنا وهناك، بل هو روح النهضة ومحرّك التطور ودليل الوعي الحضاري في أي دولة، سواء كانت غنية أو فقيرة، متقدمة أو نامية. فحين تستثمر الدول فإنها في الحقيقة تُعيد تشكيل مستقبلها، وتحوّل طاقاتها الكامنة إلى قدرات إنتاجية حقيقية، وتبني دعائم الرخاء المستدام. إن الاستثمار هو الذي يُحوّل العلم إلى صناعة، والفكرة إلى منتج، والإنسان إلى طاقة مبدعة، والموارد إلى ثروة نامية.

ويقصد بالاستثمار ببساطة توجيه المال أو الجهد أو المعرفة نحو مشروعٍ يعود بالنفع في المستقبل، سواء كان ذلك المشروع مزرعة أو مصنعًا أو طريقًا أو مدرسة أو منظومة تكنولوجية. وهو ليس حكرًا على القطاع الخاص وحده، فالدولة نفسها حين تُقيم السدود والموانئ والمدارس والمستشفيات، فهي تمارس الاستثمار العام. كذلك حين يأتي مستثمر أجنبي من الخارج لينشئ مصنعًا أو مشروعًا في بلد ما، فذلك ما يسمى بالاستثمار الأجنبي المباشر.

الاستثمار إذن هو الطريق العملي للنهوض، لأنه يزيد من رأس المال المادي كالمصانع والآلات، ويطوّر رأس المال البشري كالتعليم والتدريب، ويرفع الإنتاجية، ويخلق الوظائف، ويحسّن مستوى المعيشة. وكلما زاد الاستثمار الفعّال، ازداد النمو الاقتصادي وتوسّعت الأسواق، وتحسّنت حياة الناس. والدول التي سبقتنا في التقدم لم تفعل ذلك بالسحر ولا بالصدفة، وإنما لأنها جعلت الاستثمار أولوية قصوى، فمهّدت له بإصلاح بيئتها الكلية تشريعًا وحوكمةً ورقمنةً ونفاذًا للقانون، وبنت ما استطاعت من بنية تحتية وفق مقدورها، وطوّرت التعليم وربطته بالصناعة، وحرّرت اقتصادها من القيود، ووفّرت بيئة آمنة ومشجّعة لرأس المال.

وحين نقول “تحرير الاقتصاد” فنحن نقصد إزالة القيود والعراقيل التي تمنع الأفراد والشركات من الاستثمار والإنتاج والتجارة بحرية ومسؤولية، ضمن إطار من القوانين والضوابط التي تضمن الشفافية والمنافسة العادلة. أمّا “الحوكمة” فتعني أن تُدار الدولة بعقل منظم وفق قواعد معلنة تطبّق على الجميع بلا استثناء، بحيث لا مجال للفساد أو المحسوبية أو التلاعب. وأما “الرقمنة” فالمقصود بها تحويل المعاملات والإجراءات إلى أنظمة إلكترونية ذكية، تجعل الأداء أسرع وأدقّ وأبعد عن الفساد، وتتيح مراقبة مستمرة للأموال والقرارات.

حين تتوافر هذه الثلاثية: التحرير، الحوكمة، والرقمنة، يصبح الاستثمار مثل النهر الجاري الذي يسقي أرض الدولة فينبت فيها العمران والرخاء. لأن المستثمر، سواء كان مواطنًا أو أجنبيًا، لا يحتاج فقط إلى موارد، بل إلى ثقة وطمأنينة، أي أن يشعر أن أمواله وأعماله في بيئة مستقرة وواضحة تحكمها قوانين عادلة، ويمكنه أن يحوّل أرباحه بحرية، وأن يجد طاقة وكهرباء وطرقًا وإنترنت وبنية تحتية تساعده على الإنتاج.

والاستثمار كما أسلفنا ركنه الأكبر يقوم به القطاع الخاص، وطنيًا كان أو أجنبيًا، بما يحمله من روح المبادرة والإنتاج، وما يجلبه معه من الخبرة والتقنية والتمويل والأسواق. فالدولة تهيئ المناخ وتسنّ القوانين وتحافظ على العدالة والشفافية، بينما يتولى القطاع الخاص عجلة الإنتاج، ويسهم في نقل المعرفة وتوسيع الطاقة الإنتاجية. ومن التفاعل المتناغم بين الدولة والقطاع الخاص تولد النهضة الحقيقية التي تستمر ولا تنقطع.

وفي الحقيقة، فإن الاستثمار الوطني أو الأجنبي في البيئة الصالحة يصيران شيئًا واحدًا لا فرق بينهما في الجوهر، لأن ثمرة كليهما هي النهضة الشاملة التي تعم البلاد والعباد. فحين تكون القوانين عادلة، والحوكمة راسخة، والرقمنة ضامنة للشفافية، يصبح المستثمر الأجنبي نفسه شريكًا وطنيًا في البناء، يعمل تحت ذات النظام وبنفس الالتزامات، فتتحول شركته بحكم عملها ومقرها ونفعها إلى شركة وطنية لا تقل وطنيةً عن نظيرتها المحلية، بل قد تفوقها من حيث الحصاد والإفادة العامة للبلاد. فالوطنية هنا ليست شعارًا على الورق، بل مساهمة فعلية في الإنتاج والتشغيل ونقل الخبرة والمعرفة وتحقيق الازدهار المشترك. وهكذا تزول الفوارق، ويتحول رأس المال كله إلى طاقة وطنية واحدة تعمل في اتجاه النهضة الجماعية.

والحقيقة التي يغفل عنها كثيرون أن حتى الدول الفقيرة مالياً تستطيع أن تجلب التمويل اللازم لبناء بنيتها التحتية ومشاريعها الكبرى إذا حسَّنت بيئتها الاستثمارية والتحريرية والحوكمية والرقمية والقانونية. فالمؤسسات التمويلية العالمية، وصناديق الاستثمار التنموي، والمستثمرون الكبار، لا يفرّون من الدول الفقيرة لأنها فقيرة، بل لأن بيئتها طاردة وغير آمنة أو معقّدة. فإذا أصلحت هذه البيئة، جذبت التمويل حتى لو لم تكن تملك المال. وهذا ما فعلته كثير من الدول التي كانت متخلفة ثم أصبحت من نمور الاقتصاد، مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية ورواندا، إذ بدأت فقيرة لا تملك إلا الإرادة والنظام، ثم أصبحت مراكز عالمية بفضل الإصلاح المؤسسي والحوكمة الصارمة والرقمنة الشاملة التي جعلت كل دولار يُستثمر فيها ينتج عشرة.

وهذا ما تدركه حتى الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وسائر الاقتصادات المتقدمة، فهي رغم قوتها المالية والعلمية والتقنية، لا تكتفي بما لديها من ثروات، بل تسعى باستمرار إلى جذب الاستثمارات الأجنبية وتيسير بيئتها وتشجيع رؤوس الأموال العالمية على الدخول في أسواقها. فالحوافز الضريبية، وتبسيط القوانين، وفتح قطاعات جديدة للمستثمرين، كل ذلك ليس احتياجًا عندها، بل وعيًا بأن الاستثمار هو محرك الاقتصاد الدائم ومصدر التجديد والابتكار والتشغيل، وأن الدولة مهما بلغت قوتها لا تستطيع أن تنهض وحدها دون القطاع الخاص المحلي والأجنبي معًا.

وعلى النقيض من ذلك، فإن السودان – رغم ما يملكه من موارد عظيمة وقدرات هائلة – سيظل رهين الجمود ما لم ينتقل من الإصلاحات الجزئية المتفرقة إلى الإصلاح الكلي المتكامل الذي يربط كل أجزاء المنظومة الاقتصادية والمالية والقانونية ببعضها. فمهما حسُنت النيات، وتطوّرت القدرات، وارتفعت كفاءة القائمين على المؤسسات، فلن تؤتي الجهود ثمارها إذا بقيت الإصلاحات فروعًا منفصلة عن الجذر، وجزرًا معزولة عن بعضها. وخذ مثالًا واحدًا واضحًا على ذلك: غياب تحرير سعر الصرف. فهذا وحده كافٍ لإعاقة دخول أي استثمار أو تمويل خارجي إلى البلاد، لأن المستثمر أو الممول يحتاج إلى آلية تحويل تلقائية آمنة وواضحة لأمواله وأرباحه، وهي شرط أولي لا يمكن تجاوزه في كل صيغ التمويل العالمية، سواء في نظام البناء والتشغيل والتحويل (BOT) أو الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP) أو غيرها من الصيغ التمويلية. فإذا انعدمت هذه الآلية، انتفت القدرة على التحويل، وتعطلت الثقة، واستحال دخول أي استثمار مهما كانت جدواه أو حماس أصحابه.
إلا في مشاريع محددة بعينها، تتجاوز فيها الدولة للمستثمرين البيئة الكلية المتخلفة، فتمنحهم حماية وضمانات استثنائية تسمح بتحويل أموالهم أو اقتطاع نصيبهم وتصديره دون مترتبات أو قيود، كما حدث في

تجربة مشروع النفط في عهد الإنقاذ، حين أُنشئت ترتيبات خاصة موازية خارج النظام الاقتصادي العام، مكّنت المستثمرين الأجانب من تحويل عائداتهم بسهولة تامة. وقد نجحت تلك التجربة جزئيًا في جذب الاستثمار في قطاع بعينه، لكنها لم تُصلح الخلل البنيوي في الاقتصاد، بل كرّست ازدواجية ضارة بين “اقتصاد محميّ” محدود النطاق، وبيئة استثمارية عامة طاردة ومقيدة. ومادام الإصلاح لم يشمل المنظومة بأكملها، ظلّ أثر تلك التجارب محصورًا في حدودها الضيقة دون أن يتحول إلى نهضة اقتصادية شاملة.

والسودان من الدول الغنية بالموارد، ولذلك فإنّ فرصته أعظم وأسرع، لأنّ ما يحتاجه ليس المال بل النظام. فالسودان بلد يملك من الموارد الطبيعية والزراعية والمعدنية ما لا يُعدّ ولا يُحصى: أرض خصبة، مياه وفيرة، شمس دائمة، معادن، ثروة حيوانية، وموقع استراتيجي بين إفريقيا والعالم العربي. لكن هذه النعم ظلت معطلة لأنها لم تجد البيئة التي تُحوّلها إلى ثروة حقيقية. فإذا توفرت بيئة استثمارية محرّرة تحكمها الحوكمة والرقمنة والقانون، فستتدفق الاستثمارات من الداخل والخارج كما يتدفق الماء في الوادي، وسينهض الاقتصاد خلال سنوات قليلة نهضة تُذهل العالم.

الاستثمار أيضًا ليس مجرد بناء مصانع وطرق، بل هو بناء الإنسان، لأنه من دون الإنسان الكفء لن يثمر المال. فالتعليم والتدريب والتأهيل هي استثمارات في رأس المال البشري، وهي التي تضمن استدامة التطور، لأنّها تُخرّج العقول التي تُدير وتُبتكر وتُصنّع. غير أن هذا الاستثمار في البشر نفسه لا يمكن أن يُثمر أو يستمر أو يتوسع ما لم تُهيأ له البيئة العامة الملائمة التي ذكرناها من قبل — بيئة التحرير الاقتصادي التي تُطلق طاقات الناس دون تقييد، والحوكمة التي تضمن العدالة وتُكافئ الجدارة لا الولاء، والرقمنة التي تيسر التعلم والعمل والإنتاج، والقانون الذي يحمي الحقوق ويمنع الظلم والاحتكار. فالعقل المبدع يحتاج إلى فضاء من الحرية والثقة والعدل حتى ينتج، ويحتاج إلى مؤسسات رشيدة وأنظمة ذكية حتى يجد طريقه إلى النمو والانتشار والاستدامة. لذلك فإنّ الاستثمار في الإنسان، شأنه شأن الاستثمار في البنى التحتية والاقتصاد، لا يزدهر إلا في بيئة حرة عادلة رقمية منظمة، تعطي لكل مجتهد حقه، وتربط بين الجهد والجزاء، وبين الإبداع والمكافأة.

ولذلك فإن الاستثمار هو الذي يصنع النهوض، لكنه وحده لا يضمن ديمومته ما لم يُدعَّم بالحوكمة والتخطيط والرؤية بعيدة المدى. فالدول التي حققت طفرة مؤقتة ثم تراجعت، كانت مشكلتها أنها ركّزت على الكمّ لا على الكيف، وعلى المشاريع لا على الإنسان، وعلى المال لا على النظام. أما الدول التي استدامت نهضتها، فهي التي جعلت الاستثمار مشروعًا وطنيًا مستمرًا لا يرتبط بمرحلة أو حكومة أو مزاج سياسي، بل يُدار بعقل مؤسسي محكوم بالقانون والتخطيط العلمي.

إن الاستثمار هو الجسر بين الفقر والرخاء، بين التخلّف والتقدّم، بين الأحلام والواقع. هو الطريق العملي الذي يجعل الأمم تبني بيديها حاضرها ومستقبلها. والذين يظنون أن الاستثمار لا يصلح إلا للدول الغنية، يجهلون أن التاريخ كله يقول العكس: الفقر ليس عائقًا أمام الاستثمار، وإنما سوء الإدارة والفساد والجمود الفكري هي العوائق الحقيقية.

وحين تتحرر العقول قبل الاقتصاد، وتُبنى المؤسسات على العدل والشفافية، وتُستخدم التقنية لتسريع الأداء وضبطه، فإنّ الاستثمار يصبح طريقًا ممهّدًا إلى النهضة الشاملة. عندها فقط، يمكن أن نقول إننا دخلنا زمن البناء لا الكلام، وزمن الفعل لا الانتظار، وزمن النهضة التي لا تتوقف، لأنّها قامت على قاعدةٍ متينةٍ من التحرير والحوكمة والرقمنة والإرادة.

بذلك نفهم أن الاستثمار ليس بابًا من أبواب المال فحسب، بل هو عنوان المرحلة ومفتاح المستقبل. فهو الذي يصنع الدول القوية، ويحفظ للدول المتقدمة مكانتها، ويمنح للدول الفقيرة فرصة الخروج من أزماتها، ويُحوّل الموارد إلى منافع، والأحلام إلى واقع. ومن يدرك هذه الحقيقة، يُدرك أن النهضة لا تبدأ من المال، بل من النظام الذي يجلب المال، ولا تدوم إلا بالاستثمار المستمر في الإنسان والعلم والمؤسسات، لأنّها وحدها التي تضمن أن تظل عجلة التطور دائرة إلى الأبد.

فحيثما وُجد الاستثمار المنظم، وُجدت الحياة، وحيث غاب، تجمّد الزمن.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى