
رحمة عبدالمنعم يكتب:.. للحقيقة لسان..«متى تعود الصحافة الورقية؟»
في الأيام الماضية، دار جدل كثيف على صفحات التواصل الاجتماعي، عقب بيان أصدرته ما تُسمّى بـ”رابطة الصحافة الإلكترونية”، تنتقد فيه بحدةٍ غير مبررة، ما وصفته بتغييب منسوبيها عن تغطية مشروع “العودة الطوعية” للسودانيين من جمهورية مصر العربية، وهو المشروع الذي تتبناه منظومة الصناعات الدفاعية وتنفذه بكفاءة ومسؤولية وطنية، ولولا أن البيان استوقف الرأي العام أكثر مما استحق، لما كان جديراً بالتعليق، فالمشروع في جوهره، ليس فعالية مغلقة ولا احتفالاً رسمياً يحتاج إلى بطاقات
دعوة، هو حدث وطني مفتوح لكل من أراد أن يُمارس مهنته بضمير صحفي حيّ، كانت محطة قطارات رمسيس مفتوحة للجميع، وكان العائدون أنفسهم مادة الخبر وضميره، لمن أراد أن يكتب بصدق ويشهد بعينه لا بشاشته.
وسقت هذه المقدمة لأتحدث عن أمرٍ أخطر من “البيان” ذاته، عن الغياب المديد للصحافة الورقية السودانية، لأكثر من عامين ونصف، بسبب الحرب التي طالت كل شيء: الإنسان، والمكان، والكلمة المطبوعة، ذلك الغياب الذي ترك فراغاً مهنياً استباحه هواة ودخلاء، لا علاقة لهم بالصحافة،تسللت فوضى النشر إلى المشهد، وبرزت ظاهرة ما سمّاها الأستاذ الهندي عزالدين بحق “الصحافة الدكاكينية”، صفحات
إلكترونية تُدار من غرفٍ مغلقة بلا ضمير مهني ولا مسؤولية وطنية، تنشر الشائعة كما لو كانت خبراً، والافتراء كما لو كان تحقيقاً.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن المشهد الرقمي نفسه أنجب نماذج مشرفة تستحق التقدير، مواقع وصحفاً إلكترونية جادة أثبتت أن المهنية لا تُقاس بنوع الوسيط، بل بصدق المحتوى واحترام القارئ. من بين هذه النماذج تبرز صحف مثل الكرامة، وأصداء سودانية، وألوان، والمحقق، وعزة برس، العهد اونلاين،(5 مينتس) وغيرها من المنابر التي حافظت على تقاليد الصحافة الرصينة، وقدّمت مادة خبرية وتحليلية مسؤولة، فكانت شاهداً على أن الصحافة الإلكترونية يمكن أن تكون امتداداً نبيلاً للورقية لا بديلاً رخيصاً عنها.
لقد كانت الصحافة الورقية، على علاتها، مؤسسة ضبط وميزان، كانت تُراجع وتُدقق وتتحمل مسؤولية الكلمة المطبوعة، لأن ما يُنشر على الورق يبقى، أما في فضاء اللاورق، فقد صار الخبر سهل الولادة وسريع الموت، وأصبحت المعلومة بلا سياق، والرأي بلا عمق، والجدل بلا مسؤولية.
اليوم، ونحن في مرحلة ما بعد الصدمة، تبدو عودة الصحافة الورقية ضرورة لا ترفاً، ضرورة لتصحيح الوعي الجمعي، ولإعادة الانضباط إلى المهنة التي انقلبت فيها المعايير، لا يمكن للأمة أن تنهض بينما مؤسساتها الإعلامية الموثوقة معطلة، وصحفها تُعامل كما لو كانت من الماضي،فعودة الصحافة الورقية هي في جوهرها، عودةٌ للذاكرة الوطنية وللتوثيق الصادق لتاريخ هذه الحرب، التي حاولت المليشيا أن تسرق فيها ليس فقط العاصمة والمقار والممتلكات، بل الوعي ذاته.
لقد دمرت المليشيا مقرات الصحف، ونهبت الأجهزة والمعدات، وعبثت بالمطابع، كما لو كانت الحرب مع الكلمة قبل أن تكون مع الوطن، ومع ذلك، فإن الصحافة السودانية لم تمت، لأنها لم تكن يوماً ملكاً للمباني ولا للماكينات، بل كانت وستظل فكرة ومسؤولية وضميراً حياً.
إن على الدولة أن تدرك أن دعم الصحافة الورقية ليس منّةً ولا ترفاً ثقافياً، بل واجب وطني لحماية الوعي من الانحدار، فكما تدعم الدولة الزراعة والغذاء، عليها أن تدعم “غذاء العقول”. وعلى اتحاد الصحفيين أن ينهض من سباته، فلا يُكتفى بإصدار البيانات أو المشاركة في المحافل الخارجية، وكأن الهمّ الصحفي يُعالج بالتصوير التذكاري، الاتحاد الحقيقي هو الذي يُقاتل من أجل عودة الصحف إلى المطابع، لا من أجل حجز مقعد في مؤتمر خارج الحدود.
لقد آن الأوان لأن تعود الصحف، ولو بعد عناء، لأن تُضاء المطابع من جديد، وتعود الرائحة القديمة التي يعرفها كل من أمسك يوماً بورقةٍ ساخنة خرجت للتو من ماكينة الطباعة، تلك الرائحة ليست رائحة الحبر فحسب، بل رائحة الذاكرة الوطنية.
إن عودة الصحافة الورقية ليست فقط عودة للخبر المكتوب، بل عودة للانضباط، للمسؤولية، وللذوق المهني الذي افتقدناه في زحمة الفوضى الإلكترونية، هي عودة السودان إلى صوته العاقل بعد أن ضجّت الساحة بأصوات الصدى.
الصحافة الورقية، مهما قيل عن أفولها، تظل مرآة الوعي الجمعي، لا يطويها الغياب بل يُعيدها الإيمان وحين تعود، فإنها لن تعود كما كانت فقط، بل أقوى، وأصدق، وأشد التصاقاً بالناس الذين تعبوا من الضجيج، ويريدون أن يقرأوا مرة أخرى شيئاً يُشبه الحقيقة.