احمد عبدالوهاب يكتب:.. فنجان الصباح..مبروك.. نصف قرن من العطاء الصحفي المتصل

احمد عبدالوهاب يكتب:.. فنجان الصباح..مبروك.. نصف قرن من العطاء الصحفي المتصل
غيب الموت فجر الاثنين ٢٣ سبتمبر ٢٠٢٥م الصحفي المخضرم وصاحب القلم الذهبي الاستاذ محمد احمد مبروك بعد مسيرة عطاء صحفي ناهزت نصف قرن من الزمان قضاها في معاقرة الحبر والحرف.. بدأت مسيرته المهنية منتصف السبعينات بصحافة العهد المايوي في صحيفة الصحافة المملوكة للاتحاد الاشتراكي مرورا بالفترة الانتقالية ثم صحافة الديمقراطية الثالثة وصحافة الانقاذ في طبعاتها المتعددة.. وكانت صحيفة الصحافة مع الأيام ثاني صحيفتين كانتا تنطقان بلسان التنظيم الحاكم.. وكان الدخول إلى عالم الصحافة وقتها يتطلب كثيرا من الكفاءة وقليلا من الالتزام التنظيمي، وبدون كفاءة وتميز فإن الدخول إلى أي من الصحيفتين يماثل صعوبة دخول الجمل إلى سم الخياط. وقد أبلى الرجل في جريدة الصحافة في نسختها المايوية بلاء حسنا وشهد له بالاجادة في كتابة التحقيقات
الاستقصائية أستاذه الكبير محمد صالح يعقوب الصحفي الهرم وسكرتير تحرير صحيفة العلم التي انشأها الزعيم الأزهري .. وفي الصحافة وفي التحقيقات أبدع الرجل وأجاد وأوفى على الغاية..
وفي رحاب صحيفة السودان الحديث بعد شهور قليلة من بداية الانقاذ التقينا، كنا مجموعة كبيرة من أجيال ومدارس فكرية وصحفية مختلفة. من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بعضهم يجهر بانتمائه وآخرين يخفونه خوفا أو طمعا وآخرين على اليابسة بلا انتماء.. وفي آخر الطابور الطويل جاء محمد أحمد مبروك وبعده جاء شقيقه الأكبر محمد مبروك.. وكانت دار الثقافة – الصحافة – سابقا دارا فسيحة
وحوشا واسعا يحوي كل ماتحتاجه الدور الصحفية يومئذ من مكاتب للإدارة العليا وإدارات ومكاتب التحرير والمطابع الكبيرة والمطابع التجارية باقسامها والمخازن.. حسبما أعاد ترتيبها بعد فترة التأميم الأستاذ الراحل محمد الحسن أحمد .. صاحب (الاضواء) والذي كان يحدثني عنها بكل الفخر..
كان للاستاذ مبروك في هذه الدار ذكريات وصداقات لا يمل من تكرارها وكان يفتخر بأنه زامل من الرعيل الأول والاساتذة الكبار حسن نجيلة ومحمد صالح فهمي وآخرين من بينهم أحد ابطال ثورة اللواء الأبيض ..
تقلب مبروك في عدة أقسام بصحيفة( السودان الحديث) ثم اسندوا اليه لفترة قصيرة ادارة تحرير اسبوعية( رأي الشعب) القريبة من تجربة اللجان الشعبية.. ثم اختار قسم التصحيح حيث يمتلك الرجل معرفة ممتازة باللغة العربية وتجربة طويلة في التدقيق اللغوي.. وكان يتردد عليه في مكتبه الاستاذ ابراهيم الياس الخبير المصرفي والاقتصادي ووزير المالية في عهد مايو والاستاذ الطيب محمد الطيب وغيرهما من المشاهير..
والراحل العزيز كان نتاج بيئات مختلفة تمتد من مقرات إلى بركات..ونتاج مشارب متعددة فهو رباطابي الأب شايقي الأم وينحدر اسلافه من مناطق وجزر الرباطاب وهم أهل فصاحة وفراسة ولاينازعهم في الذكاء الفطري إلا الزغاوة بغرب السودان برأي الاستاذ ابراهيم الياس والا العمراب بنهر النيل الذين تروي الاسطورة ان اغنامهم ربما كانت ترعى في جبال ام علي (عود الاكسير) .. وقريبا منهم اهل قندتو جنوبي شندي. قضي مبروك شطرا من طفولته وصباه بمناطق ابوعشر بمشروع الجزيرة في عهده الذهبي وهناك جنى القطن وزرع مع والده الطماطم والخضروات.. وعايش نهايات الخمسينات وكل الستينات التي يسميها صاحب ألوان ب ( سيدة سنوات القرن العشرين).. ودرس الثانوي في عطبرة مزاملا للشيخ الراحل الزبير احمد الحسن وزير المالية في الانقاذ وظل صديقا وفيا له إلى لحظة رحيله بسجن كوبر..
لم يطب العمل للرجل بالسودان الحديث فغادرها إلى عمل خاص حيث اصدر كتابا عن صاحب مصنع الشفاء بطلب من أقاربه.. ثم اصدر لفترة قصيرة صحيفة المسار ورأس هيئة تحريرها ثم رأس تحرير صحيفة الهلال على عهد البرير رغم عدم انتمائه الرياضي . وانضم لاحقا إلى اعلام بنك امدرمان الوطني ثم اختار العمل في خدمة القرآن العظيم وقضي سنوات عديدة في دار مصحف افريقيا. ثم عاد إلى عمله ومكتبه الخاص.. وصار يصدر كتيبات صغيرة اسبوعيا وكتابا كل شهرين او ثلاثة. وقد استهواه الطب البديل والعلاج بالقرآن وظل لآخر ايامه يعمل في هذا المجال وفي مكافحة وعلاج الإدمان بعطبرة. وقد اوصاني بالكتابة عن خطر المخدرات بنهر النيل.. وهي لا تقل خطورة عن المهددات الامنية الأخرى.. ويبدو ان حكومة الولاية عنها في شغل شاغل..
وبالجملة فقد كان الرجل الى جانب مواهبه في الكتابة والصحافة صاحب مواهب متعددة في الميكانيكا والكهرباء والحاسوب.. وغيرها ..
اختار مبروك شريكة حياته من أسرة كريمة من الجريف شرق وطاب له المقام هناك مجاورا حينا من الدهر الاساتذة عبد الرحمن ود ابراهيم – اب زرد- شفاه الله ، و الصحفي البرلماني الراحل محمد حسن زكي..
ومما ميز تجربة مبروك الصحفية هذا التواصل وعدم الانقطاع مع تنوع التجارب وتعدد العهود واختلاف الأنظمة السياسية.. وقد انحاز للصف الوطني قبل الحرب وبعدها منافحا بقوة واخلاص عن المؤسسة العسكرية في وجه المؤامرة العالمية الغاشمة وظل يكتب من شرق النيل معرضا نفسه لخطر الاعتقال والتصفية على يد اوباش بلا خلق ولادين ولا رحمة.. ثم بدا له أن يعود إلى عطبرة ليدير من هناك اعمالا تجارية واستشارات صحفية واعلامية ناجحة.. وقبل ايام قلائل من وفاته قاد سيارته بنفسه من عطبرة إلى الخرطوم وقال انه يريد لنفسه راحة لمدة ٣ اسابيع.. وهناك ادركته المنية وسط اسرته مع خيوط الفجر الأولى ليوم الثلاثاء الماضي.. بعد ان جمع الاسرة واوصاهم بالصبر ثم نطق الشهادتين واسلم الروح لبارئها..
وللرجل أسرة ناجحة وزوجة صالحة بالجريف.. وله ابن وحيد وعدد من الكريمات تشرفت احداهن بالزواج من ابي البركات الشيخ الدكتور عبد المحمود الشيخ الفاتح الشيخ قريب الله.. عميد الاسرة القريبية الطيبية المباركة.
رحل الرجل بعد رحلة عطاء صحفي لنصف قرن وعمر ناهز ٧٥ سنة وكان منذ سنوات يقول لي انه يعيش في زمن اضافي وكل يوم يعيشه يعتبره ربحا كبيرا وظل يردد انني أرى الآخرة رأي العين.. وكان مطمئن القلب ويقول واثقا انه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وانه لا يملك سوى حسن الظن بربه.. وحب المساكين..
وبرحيله تفقد مهنة الصحافة والكتابة الرصينة ويفقد شرق النيل وحلة كوكو وهب النسيم والجريفات كما يقول الطيب صالح( شيئا رائعا إلى الابد)..
رحمه الله واحسن اليه واحسن عزاء اسرته وعارفي فضله.





