محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..محمد أحمد مبروك.. القلم الذي عاش للناس

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..محمد أحمد مبروك.. القلم الذي عاش للناس
كتبتُ عند اللحظة الأولى من الرحيل كلامًا خرج تحت ضغط اللحظة وحرارة الحزن، فلم يُنصف الرجل كما يليق بسيرته. أعود اليوم بروحٍ أهدأ وذاكرةٍ أوسع، محاولةً لردّ بعض الجميل لرجلٍ لم يكن مجرد صحفي، بل مدرسة مهنية وأخلاقية امتدّ عطاؤها لنصف قرن. كان يؤمن أن الكلمة عملٌ ومسؤولية، كأنه يترجم في مسيرته قوله تعالى: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ»، فجمع بين دقة الخبر ونزاهة الموقف وصدق النصيحة، فاطمأن الناس إلى قلمه واحتفوا بأثره.
منذ عقودٍ تمرّس على صناعة الكلمة في الصحافة الورقية والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، فكتب بلغةٍ رصينةٍ قريبةٍ من الناس من غير تكلّف، ووقف من القضايا موقف المصلح الذي يضع المصلحة العامة نصب عينيه. عرفه القراء صدوقًا في النقل، عاقلًا في التحليل، بعيدًا عن التشنّج والخصومة؛ وعرفه زملاؤه مثالًا للانضباط والأمانة، ومعلّمًا تخرّج على يديه شبابٌ كُثُر تعلّموا منه أصول المهنة وأخلاقها.
ولم يقف عطاؤه عند حدود الورق؛ فقد كان له الباع الأكبر في تأسيس أهم صرحٍ لعلاج الأمراض النفسية ومكافحة إدمان المخدرات بمدينة عطبرة؛ مركزٌ صار عنوانًا للإنقاذ والرجاء، تعافى عبره—بعون الله—مئات الشباب، ولا يزال أثره الإيجابي يتسع يومًا بعد يوم. وفي هذا المعنى يحضر قول النبي ﷺ: «مَن نفَّس عن مؤمنٍ كُربةً من كُرَبِ الدنيا نفَّس الله عنه كُربةً من كُرَبِ يوم القيامة»، فكيف بمن كان سببًا في تفريج كُرَب أسرٍ وشبابٍ ومجتمعٍ بأكمله!
واهتم الراحل اهتمامًا خاصًا بالطبّ البديل، فجمع فيه من المعارف والتجارب ما جعله مرجعًا عند من عرفوه وراجَعوه، ووثّق ذلك في كتابٍ مستكمل الأبواب لم يمهله الأجل لنشره؛ نرجو أن يرى النور بعد وفاته فيكون علمًا نافعًا يجري ثوابه. ولم يتوقف مشروعه الفكري عند هذا الحد، إذ بذل جهدًا ضخمًا في إعداد وتنسيق رؤيةٍ متكاملةٍ لإصلاح البيئة العامة في البلاد، ووضعِ تصورٍ عمليٍّ لنهضةٍ شاملةٍ مُنضبِطةٍ بالأولويات ومسنودةٍ بالحوكمة والرقمنة وسيادة القانون.
وكان، مع قوته في الحق وصرامته في النصح، هيّنًا لينًا في المعاملة، قريبًا من الناس، برًّا بهم ومحسنًا إليهم. وقد لمستُ ذلك بنفسي خلال الأشهر القليلة التي قضاها في قرية دارمالي شمال عطبرة؛ زمنٌ قصيرٌ بمقياس التقويم، عميقٌ بمقياس الأثر. سارع الناس يوم رحيله رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا، ينعونه بحرقة مَن فقد واحدًا من أبنائه؛ وكأنه وُلد بينهم وعاش معهم عمرًا بأكمله. وما كان هذا ليكون لولا صدقٌ يُرى في السلوك قبل المقال، ورفقٌ يُجمّل النصيحة؛ وقد قال ﷺ: «إن الله رفيقٌ يحب الرفق».
ظل قلمه قريبًا من نبض المجتمع؛ فقد كتب وسعى عمليًّا محذرًا وناصحًا لمعالجة كثيرٍ من الأدواء المجتمعية، كالمخدرات والأمراض الفتّاكة، وساهم في وضع تصوّراتٍ لحلول في مجالات شتى باحثًا عن مخرجٍ لمعاش الناس، رابطًا بين المعلومة والتحليل والمسؤولية العامة. فكانت مقالاته—على اختلاف موضوعاتها—تلتقي عند غاية واحدة: أن تكون الصحافة أداةَ تنويرٍ ومصلحة، لا صدى صخبٍ ولا مطيةَ هوى. وكأنه يتتبّع معنى الآية الكريمة: «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ»؛ فتمضي حياة الإنسان بأعماله، وتبقى آثاره بعد رحيله شاهدًا على ما قدّم.
وهنا تحسن الذكرى بأن تُتَوَّج ببعض ما قاله أبو العتاهية في رثاء الدنيا وزوالها:
لِكُلِّ شيءٍ إذا ما تَمَّ نُقصانُ
فلا يُغَرَّ بطيبِ العيشِ إنسانُ
هي الأمورُ كما شاهدتَها دُوَلٌ
مَن سَرَّهُ زمنٌ ساءَتهُ أزمانُ
وهذه الدارُ لا تُبقي على أحدٍ
ولا يدومُ على حالٍ لها شانُ

رحل محمد أحمد مبروك، وبقيت آثاره: نصف قرنٍ من المقالات والتحقيقات والمقابلات، ومؤسساتٌ نفعية شارك في بنائها، وجيلٌ من الصحفيين تخلّق بأخلاقه. ونرجو أن يندرج ما خلّفه من علمٍ مُعَدّ، وكتبٍ قيد النشر، ومشروعاتٍ فكريةٍ قيد الإتمام في معنى قوله ﷺ: «إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له». أما نحن فنوقن بحقيقةٍ لا تتخلّف: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ»، ويبقى العزاء أن العمر الحقيقي يُقاس بما قدّم المرء من نفعٍ صادقٍ وأثرٍ طيب.
أكتب اليوم لا لأكرّر ما قيل، بل لأضمّ ما عرفته بنفسي إلى ما عرفه الناس عنه، ولأعترف أن مقالي الأول كان أقل من المقام؛ خرج من قلبٍ مفجوعٍ في الدقائق الأولى، وهذا يخرج من قلبٍ يطلب الوفاء وإن في حدّه الأدنى الذي لا يوازي أمام رفعة تلك القامة شيئًا. وإذا كان للرجل علينا حقّ بعد الرحيل، فهو أن نواليه بالدعاء وأن نحتذي ونواصل ما كان يصنعه في حياته: كلمةٌ صادقة، وعملٌ نافع، ونصيحةٌ حانية لا تساوم على الحق ولا تجفو الخلق. رحم الله الأستاذ محمد أحمد مبروك رحمةً واسعة، وجعل ما قدّم في ميزان حسناته، وعامله الله تعالى لا بعدله بل بفيض كرمه وجزيل فضله، وألهم آله وذويه وتلاميذه ومحبيه جميل الصبر وكامل الرضا والتسليم. إنا لله وإنا إليه راجعون.





