مقالات

إبراهيم شقلاوي يكتب:..وجه الحقيقة..السودان: حساب الدم والسياسة..!

إبراهيم شقلاوي يكتب:..وجه الحقيقة..السودان: حساب الدم والسياسة..!

 

 

منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، شهد السودان اختبارًا وجوديًا حقيقيًا بعدما شرعت قوات الدعم السريع في انقلاب مسلح ضد الدولة. ما تلا ذلك من أعمال دموية ضد المدنيين في دارفور وكردفان والخرطوم والجزيرة وصفت بأنها تتراوح بين جرائم حرب، تطهير عرقي، وربما إبادة جماعية.

لم تكتف تلك المليشيا بالتمرد على الجيش الوطني، بل استخدمت السكان كدروع بشرية، ونفذت عمليات قتل واغتصاب ونهب ممنهج، في سلوك يذكّر بتجارب المليشيات في أسوأ النزاعات الإفريقية.

في ظل هذا الواقع، سجّلت دارفور خلال 10 أيام فقط مقتل 160 مدنيًا، بينهم 16 تم تنفيذ موتهم بإعدام ميداني، وفقًا لمكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة . وفي كردفان شنّت قوات الدعم السريع هجومًا وحشيا على قرية “شق النوم” بمدينة بارا بولاية شمال كردفان بتاريخ 12 يوليو، أودى بحياة أكثر من 450 مدنيًا، بينهم نساء وأطفال، حسب شهادات صادمة نقلتها وكالة AP فضلا عن إنتهاكات مماثلة في قري شرق الجزيرة السريحة وود النورة والهلالية وغيرها.

المؤسف العالم خبّأ أنفاسه أمام هذه الجرائم ، كما لم ترقى المواقف الدولية إلى مستوي هذه الأحداث. إلا أنه أوائل عام 2025، أعلن وزير الخارجية الأمريكي أن الدعم السريع وميليشياته ارتكبوا إبادة جماعية موجّهة أساسًا ضد مجموعات إثنية مثل “المساليت” ومصاحبة لذلك عقوبات مالية على قائد الميليشيا وشبكات الدعم التابعة له.

في قلب هذه الأزمة الإنسانية والسياسية، بدأت مؤخراً تظهر تحركات دبلوماسية. ففي سويسرا التقى رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان بمبعوث أمريكي مسعد بولس في لقاء لم يُعلن رسميًا، لكن فرض نفسه كخطوة أولى نحو خطة سلام تشمل وقف إطلاق النار وتوصيل المساعدات الإنسانية، كما جددت المملكة العربية السعودية دعوتها لضرورة العودة إلى منبر جدة والالتزام بما تم التوقيع عليه في 11 مايو من العام 2023، كذلك أعلنت مصر وتركيا وقطر دعمها لوقف اطلاق النار.

التوازي الدبلوماسي وصل إلى ليبيا، حيث نقلت تقارير أن مبعوثين أمريكيين التقوا خليفة حفتر في مناطق نفوذه، في محاولة لقطع خطوط الدعم اللوجستي للميليشيا، وربما توفير ممرات لإعادة تموضع مقاتلي الدعم السريع خارج البلاد في اشارة إلى تهدئة واحتواء التمرد.

كل هذه المساعي طرحت أسئلة مركزية : هل يُمكن أن تتجاوز الدولة دماء الضحايا دون عدالة؟ وهل يُقبل الشارع السوداني باتفاق لا يعالج الجذور الحقيقية للصراع أو يغيّر موازين القوة ؟ وهل يمكن البناء السياسي أن يستجيب للواقع الإنساني؟

المعركة كما ينظر لها ليست فقط في الجبهات، بل في سيادة القانون ، وفي مصداقية الصوت الوطني تجاه الداخل والعالم. سلام بدون عدالة لن يُكتب له أن يصمد، وإذا سُمح لمن مارس العنف او دعم الإنقلاب أن يتشارك أو ينخرط في بناء المستقبل دون مساءلة، فسنُعيد إنتاج الأزمة ذاتها من جديد.

في قلب هذه اللحظة الفاصلة ، تتباين مواقف النخبة السودانية الحاكمة، وتتداخل مع ضغوط دولية وإقليمية متزايدة. من جهة، يقف التيار الداعي إلى الحسم العسكري بوصفه الطريق لحماية السودان من التمزق، واستعادة هيبة الدولة. ومن جهة أخرى، يبرز خطاب يدعو إلى تسوية سياسية “واقعية”، تتجاوز ثنائية النصر والهزيمة، ولو على حساب جزء من العدالة.

تصريحات الفريق أول عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، خلال مشاركته في عزاء قائد العمليات بلواء البراء مهند فضل، كانت حاسمة في موقفها من هذه الإشكالية، إذ شدّد على رفضه لأي مصالحة مع مليشيا الدعم السريع وداعميها ، وتعهد بمواصلة القتال حتى “عودة الدولة إلى الشعب ومؤسساتها”. هذا الخطاب جاء في لحظة بدأ فيها أن بعض القوى الداخلية والخارجية تلوّح بضرورة التهدئة والانخراط في تسوية شاملة.

لكن في المقابل، أثارت تصريحات نائب رئيس مجلس السيادة، مالك عقار، جدلًا واسعًا، حين دعا إلى المصالحات وتجاوز الماضي، ما عُدّ من قبل البعض استفزازًا لمشاعر أسر الضحايا، وتراجعًا عن مواقف مبدئية طالما تبنتها الدولة. غير أن النظر بعين تحليلية إلى خطاب عقار يكشف عن محاولة لطرح خيار آخر، لا ينطلق بالضرورة من التساهل، بل من إدراك لحجم الكلفة الإنسانية والسياسية والاقتصادية للحرب المفتوحة، بالرغم من أن ذلك يراه البعض أشبه بمحاولة لفرض واقع جديد على الشعب المنهك، عبر مساومة سياسية تتجاوز الحقيقة والعدالة.

إن القضية هنا ليست في تفاصيل التسوية، بل في مبدأ العدالة ذاته. هل يُمكن إعادة بناء السودان على أسس وطنية سليمة دون الاعتراف بجرائم الدعم السريع ومحاسبته؟ هل يمكن تجاوز 10 ملايين نازح، وآلاف القتلى، وآلاف حالات الاغتصاب، تحت لافتة “المصالحة الوطنية”؟ وإذا كانت الدولة لا تحمي كرامة مواطنيها، فبماذا تختلف عن المليشيا التي اغتالت تلك الكرامة بالسلاح؟

بالنظر إلى #وجه_الحقيقة، فإن ما يحتاجه السودان اليوم ليس مجرد وقف إطلاق نار ، بل عقدًا سياسيًا جديدًا يُعيد للدولة معناها الحقيقي: دولة القانون والعدالة والسيادة. فتسوية بلا محاسبة ليست سلامًا، بل مهلة لحرب أخرى. وحتى الحسم العسكري، إن حصل، لا يُغني عن مشروع سياسي جامع يعيد بناء الدولة ويمنع عودة السلاح . لذلك يظل حساب الدم والسياسة جوهر المعادلة القادمة؛ فلا سياسة بلا ذاكرة، ولا دولة مع الإفلات من العقاب. بذلك يكون العقد الاجتماعي الجديد القائم على شرعية الاخلاق وسيادة حكم القانون.
دمتم بخير وعافية.
الخميس 28 أغسطس 2025م Shglawi55@gmail.com

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى