محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..وباء الملاريا خطر داهم ومواجهة ممكنة : مسيرات البعوض الرباعية تجتاح العاصمة وتفتك بسكانها

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..وباء الملاريا خطر داهم ومواجهة ممكنة : مسيرات البعوض الرباعية تجتاح العاصمة وتفتك بسكانها
كارثة كان يمكن تفاديها لولا العجز وضيق الأفق وقصور النظرة .. لا عذر ولا مبرر – بينما الحل موجود وعلمت به أجهزة الدولة – لا مبرر لأن نترك بضعة ملايين من سكان عاصمة بلادنا ليموتوا بينما كان في الإمكان انقاذ أرواحهم .. فالإهمال الذي يؤدي إلي الموت يعتبر جريمة قتل ، وإذا علم من أهمل مسبقاً أن إهماله يقتل فإنه يدخل في دائرة العمد .
خطر مرعب وهجوم كاسح يجتاح عاصمة بلادنا هذه الأيام ، ويتخطاها إلي معظم الولايات ، وهو هجوم لا يقل عن هجوم أوباش المليشيا المجرمة ، فكلاهما يزهق الأرواح ويفتك بمواطني الخرطوم بلا رحمة ولا هوادة .
صيحة تحذير عالية صارخة أطلقناها ونكررها لمواجهة وباء غير مسبوق اجتاح العاصمة مكون من أربعة فيالق قاتلة : الملاريا ، وحمى الضنك ، والشيكونغونيا ، والحمى الصفراء .
ونزيدك رعباً فالأمطار الغزيرة التي هطلت ومازالت حولت عاصمة بلادنا إلي بحيرات متصلة ، في ظل الانهيار الكامل لمصارف الأمطار ، فأصبحت بذلك أكبر مزرعة ربما في العالم لإنتاج البعوض وتوالده اليومي بتعداد الترليونات من هذه الحشرة القاتلة .
وازيدك رعباً بالعلم أن معظم الوحدات العلاجية من مستشفيات ومراكز صحية ومعامل وصيدليات خرجت من الخدمة بفعل الحرب ، ولم تتمكن بعد من العودة مما شكل ضغطاً هائلاً على الوحدات العاملة فقيرة الامكانات ، متباعدة الأماكن ، وينقصها كل شيء من أطباء وتمريض وكوادر مساعدة وفنيين ومعامل وأدوية .
لا .. هناك مزيد من الرعب ، فالمقومات اللازمة لمكافحة البعوض ضئيلة جداً قياساً بواقع الكارثة ، حيث لا تتوفر الآليات وطلمبات الرش والأيدي العاملة والمبيدات اللازمة ، ناهيك عن الطائرات ..
وتزيد الدهشة عندما نعلم يقيناً أن هناك مشروع كان يمكن عمله منذ عدة سنوات ، يقضي على البعوض تماماً ، ويخلص السودان نهائياً من الملاريا والبعوض الناقل لها ولأمراض فتاكة أخري ، وقد تسلمته وزارة الصحة سابقا ولم تعمل به !!
ويثير الدهشة إلى أقصى حدودها أن تكلفة هذا الحل المالية لا تتجاوز كثيراً ما تنفقه سلطات دولتنا سنوياً دون جدوى ظاهرة !!!
والعجيب أن القضاء على الملاريا ليس بالأمر الصعب من الناحية التقنية ، إنما هو أمر ممكن وميسور ، وتجربة العراق خير شاهد .
ففي خمسينات القرن الماضي نجح البروفيسور العراقي الراحل جليل أبو الحب – وهو واحد من أكبر العلماء في العالم في هذا المجال آنذاك – نجح في قيادة حملة القضاء على الملاريا في العراق ، وكانت من أكبر الدول الموبوءة بها ، وذلك بخطة دقيقة استهدفت بعوض
الأنوفيلس الناقل للمرض ، رغم ضعف الإمكانات آنذاك ، وعدم وجود سيارات أو طرق ممهدة أو اتصالات أو طائرات رش ، بل كما قال أبو الحب نفسه: كانوا يستعينون بالحمير والبغال للوصول إلى المناطق الموبوءة . ومع ذلك أعلن العراق نفسه خالياً من الملاريا خلال سنوات قليلة .
وقد استقدمت البروفيسور جليل أبو الحب إلى السودان في التسعينات ، بدعوة خاصة على نفقتي ، ووقف بنفسه على الواقع ميدانياً ، واطلع على البحوث السابقة ، وزار الإدارات المختصة ، وناقش العلماء والمسؤولين آنذاك ، ثم أعدّ دراسة تنفيذية دقيقة رفعناها لوكيل وزارة الصحة في تلك الفترة الدكتور عبد الله أحمد عثمان . وقد حازت هذه الدراسة قبولاً واسعاً ، لكنها لم تُنفذ للأسف ، ولا تزال محفوظة لدينا ، وهي دراسة علمية محكمة صالحة لأن تكون خطة وطنية مستدامة ، بعد رفدها وتجويدها بكل ما وصل اليه العلم الحديث من اضافات وتقنيات جديدة .
وفي هذه الأيام تشهد العاصمة والولايات في السودان موجات جديدة متصاعدة من الأمراض المنقولة بالبعوض ، وعلى رأسها الملاريا بأنواعها المختلفة ، إضافة إلى حمى الضنك والشيكونغونيا والحمى الصفراء جعلت مواطني الخرطوم يطلقون صيحات الاستغاثة . وهذه الموجات الجديدة ليست عابرة ولا موسمية فحسب ، إنما هي مستمرة متكررة تكشف خللاً بنيوياً عميقاً في بيئتنا وصحتنا العامة .
وفي 15 يونيو الماضي اي قبل شهرين ونصف أطلقنا صيحة تحذير في مقال نشرته الصحف وتلقفته الوسائط ووصل بالضرورة كل المسئولين في الدولة نحذر فيه من الذي حدث الآن ولكن لا حياة لمن نادينا .
ويعد السودان من أكثر دول العالم تأثراً بهذا المرض فالملاريا فيه مأساة صامتة مستمرة منذ عقود إذ تنتشر في معظم أقاليمه بسبب العوامل البيئية والمناخية والاقتصادية، مما يجعلها وباءً مستوطناً دائم الحضور . أي أن المرض في بلادنا ليس عرضاً جانبياً بل أزمة وطنية خانقة.
ووفق تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2023 فقد سجل السودان أكثر من 3 ملايين إصابة وآلاف الوفيات فيما بلغ عدد الإصابات عالمياً 247 مليون إصابة والوفيات 619 ألف حالة معظمها في إفريقيا .
وفي الواقع فإن أسباب تفاقم الوضع في السودان متشابكة: *بيئات مائية راكدة من الفيضانات ومياه الأمطار الراكدة ومشاريع الري، وتخزين المياه في المنازل دون أغطية .
*النزوح الواسع ومخيماته المكتظة ، *تغيّر المناخ وارتفاع الحرارة .
*مقاومة البعوض للمبيدات التقليدية من فئة البيرثرويدات التي أضعفت فعالية الشباك والرش الداخلي [WHO 2021] .
ويتزايد الخطر في الملاريا بعوامل عدة بالغة التعقيد وهي :
¶ الملاريا ليست مرضاً واحداً، بل مجموعة أمراض سببها طفيليات مختلفة من جنس Plasmodium. أخطرها وأكثرها شيوعاً في السودان هو الطفيل المنجلي Plasmodium falciparum الذي يمثل نحو 90% من الإصابات ويؤدي إلى معظم الوفيات [Severe Malaria Observatory 2023]، بينما تظل الأنواع الأخرى مثل P. vivax نادرة بسبب غياب مستقبل Duffy في معظم السودانيين، إضافة إلى P. malariae وP. ovale بنسب محدودة.
هذه الطفيليات ينقلها بعوض الأنوفيلس، وأشهره في السودان Anopheles arabiensis .
¶ ظهور نوع دخيل جديد انتشر مؤخراً هو Anopheles stephensi في الخرطوم، وهو بعوض حضري مهيأ لتفاقم الخطر داخل المدن إذا لم تتم مكافحته مبكراً [WHO 2024] .
¶ وجودالزاعجة المصرية Aedes aegypti وهي المسؤولة عن حمى الضنك والشيكونغونيا والحمى الصفراء التي اجتاحت شرق السودان مرات عدة، منها الموجة الوبائية في كسلا والبحر الأحمر عام 2018 التي أصابت قرابة نصف مليون إنسان (WHO) .
¶ انتشار بعوضة الكيوليكس Culex
quinquefasciatus في البيئات الحضرية مسببة داء الفيل اللمفاوي وحمى النيل الغربي التي وُجدت أضدادها في عينات الدم في بعض مناطق السودان [WHO 2022].
تشبه الملاريا بأعراض أمراض أخرى حتى أربك الأطباء والعلماء، فهي مرض ماكر قادر على التشبه وأنها قد تظهر في صورة حرارة متقلبة، أو إسهال وإمساك متعاقب، أو آلام شبيهة بالإنفلونزا أو التيفوئيد أو الالتهابات الجرثومية ، بل حتى التهاب دم يُشخص خطأ ، وقد تعطي فحوص الدم نتائج سلبية في مراحلها الأولى . وذكر البروفيسور الطيب يوسف – حفظه الله – أنه اطلع على كتاب لعالم بريطاني كتب فيه: “Malaria can mimic the symptoms of nearly every
disease.” ( الملاريا يمكن أن تتقمص أعراض أي مرض آخر) وهذه الحقيقة تجعل الملاريا خصماً خفياً يصعب رصده بسهولة، وتتضاعف خطورته على الصحة العامة .
¶ تزايد مؤشرات مقاومة الطفيليات للأدوية المركبة القائمة على الأرتيميسينين (ACTs) بعد انهيار فاعلية الكلوروكوين والسلفادوكسين/بيريميثامين قديماً [WHO 2022].
بعض طفيليات Plasmodium falciparum طورت طفرات جينية pfhrp2/3 تجعل الاختبارات السريعة تعطي نتائج سلبية كاذبة [WHO 2023]، مما يزيد من صعوبة التشخيص ويترك المرضى عرضة للمضاعفات والوفاة .
الأضرار التي تخلفها الملاريا والأمراض المشابهة جسيمة: *ملايين الإصابات سنوياً وآلاف الوفيات خصوصاً بين الأطفال والحوامل .
*إنهاك للنظام الصحي والكوادر الطبية .
*استنزاف ميزانية الدولة كل عام بالحملات عديمة الجدوي التي تنفذ سنوياً .
*تعطيل الإنتاج الزراعي في مواسم الأمطار المهمة حيث تنتشر الملاريا في هذا الموسم .
*غياب الطلاب عن التحصيل الدراسي .
*إفقار الأسر نتيجة تكاليف العلاج وتكرار الإصابة وتعطيل أرباب الأسر عن العمل وكسب وسائل العيش .
*تعطيل للتنمية المستدامة في الريف والحضر.
وهناك خطوات واضحة تقضي على هذا الداء الفتاك . وهي ميسورة ممكنة التنفيذ وتشمل :
* تهيئة البيئة العامة في بلادنا اللازمة للإصلاح التي تمكن من تنفيذ المشروعات الكبيرة وتوفير الإمكانات اللازمة من موارد الدولة وتجذب المستثمرين الكبار لإقامة مشروعات في مجال الخدمات مثل هذا المشروع . وهي بيئة تتطلب تحريراً شاملاً لاقتصاد بلادنا ووضع أجهزة الدولة في منظومة رقمية تضبط أداءها وتوحده وتيسر إجراءاته مع ضبط صارم يكافح الفساد ويضمن العدالة والكفاءة والانضباط، إذ لا يمكن لمشروع بهذا الحجم أن يُدار بالشعارات أو البيروقراطية المترهلة، بل ببيئة تنافسية حرة مرنة خاضعة للمساءلة.
* اعتبار الملاريا قضية قومية عاجلة وخطر كبير بما يفضي إلى تحرك وطني عاجل نحو حل جذري شامل، لا مجرد معالجات ترميمية أو حملات وقتية سرعان ما تخبو دون نتيجة .
* إعلان هدف استراتيجي واضح: *سودان خالٍ من الملاريا خلال سنوات محددة* وتصميم مشروع شامل متكامل للقضاء عليها.
* إنشاء مجلس وطني أعلى لمكافحة البعوض برئاسة سيادية .
* تجفيف المستنقعات وتعديل أنظمة الري والصرف .
* إدخال أحدث تقنيات المكافحة البيئية والدوائية .
* تطوير المعامل ووسائل التشخيص وتيسير ومجانية الفحص .
* توطين إنتاج المبيدات والناموسيات المعالجة الفعالة .
* إقامة حملات توعية مجتمعية وتدريب فرق محلية .
* بناء شراكات دولية مرنة تحفظ السيادة وتسرع التنفيذ.
* استخدام المبيدات الذكية طويلة الأمد .
* انشاء خرائط حرارية رقمية لرصد انتشار البعوض .
* استخدام التقنيات الحديثة مثل CRISPR لإنتاج بعوض غير ناقل للمرض [WHO 2023].
ومع كل هذه التحديات، تظل الحقيقة أن القضاء على الملاريا ممكن كما أثبتت تجارب عديدة في العالم كما في العراق في الخمسينيات رغم قلة الإمكانات ، وفي مصر وبلاد الشام والخليج والمغرب العربي وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية ، عبر تنظيم الري والرش ، في حملات إبادة بيئية شاملة ، عبر مراقبة دقيقة ومراكز بحثية متخصصة ، وتجفيف المستنقعات وتحسين العمران .
إن استئصال وباء الملاريا والأمراض الأخرى المنقولة بالبعوض في السودان ليس رفاهية ولا خيالاً ، بل ضرورة وطنية وشرط أساسي لنهضتنا. ومع ظهور الموجات الجديدة القوية في العاصمة والولايات ، فإن خيارنا اليوم لا يحتمل التأجيل : إما أن نتحرك بحل جذري شامل، وإما أن نعيد إنتاج الفشل بترقيعات وقتية ندفع ثمنها من أرواحنا واقتصادنا ومستقبل بلادنا.