مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب.. بهدوء و تدبر..ثروة السودان الحيوانية : كنز مهدور ورافعة ممكنة للنهضة

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب.. بهدوء و تدبر..ثروة السودان الحيوانية : كنز مهدور ورافعة ممكنة للنهضة

 

 

ليس هناك مبرر للفقر الذي ظلت بلادنا ترزح تحته ونحن نمتلك هذا القطيع الهائل من الثروة الحيوانية ، الذي يكفي وحده لتحقيق الرخاء بل الرفاه لشعبنا حتى لو أغفلنا كل موارد السودان الضخمة الأخرى ، التي لا مثيل لها في العالم .
وقد نهضت دول اعتماداً على ثروتها الحيوانية وهي لا تملك عشر معشار ما لدينا ولا شيئاً من امكاناتنا الهائلة المتاحة لتطوير قطيعنا الحيواني ومنها دول أوروبية وامريكية وآسيوية .

في السودان 30 مليون رأس من الأبقار ، و40 مليون رأس من الأغنام ، و36 مليون رأس من الماعز ، و4.5 مليون رأس من الإبل وذلك وفق احصاءات الدولة الرسمية ووفق تقديرات منظمة الأغذية والزراعة العالمية التابعة للأمم المتحدة (FAO، 2023) .
وهذا القطيع الحيواني الكبير بحالته الراهنة يعد من أكبر الثروات الحيوانية في إفريقيا والعالم العربي ، من حيث العدد والتنوع والامتداد البيئي .
والفرصة لتطوير هذا القطيع واسعة جداً وتتوافر مقوماتها بالكامل :

مساحة السودان تزيد عن 1.8 مليون كيلومتر مربع ، تتوزع فيه المراعي بين السافانا الغنية والمناطق شبه الصحراوية ، وتتوافر بيئة خصبة لتربية الأبقار والإبل والأغنام والماعز والدواجن ، إضافة إلى فرص واعدة في تربية الأسماك والنحل والحيوانات البرية .
تكاليف تربية الحيوان في بلادنا منخفضة بدرجة توشك أن تكون صفراً لوفرة مياه سقيا الحيوان والمراعي الطبيعية الغنية وامكانية انتاج الأعلاف بتكاليف منخفضة َمما يؤهله لدخول السوق العالمي بأسعار غير قابلة للمنافسة .

صحة وسلامة البيئة الطبيعية التي يربى فيها القطيع السوداني ، وخلوها من ملوثات المياه والهواء مما أكسبه سمعة طيبة وأضاف إليه عنصراً مهما جاذبا للطلب .
وجود انواع وسلالات ذات مواصفات عالية ومنها الضأن الدباسي من أفضل واضخم سلالات الضأن في العالم والضان الحمري والزغاوي والكباشي .
وجود سلالات جيدة من الأبقار عالية القابلية للتهجين وتطوير السلالات .
وجود أسواق ذات طلب عال في الدول العربية ووسط وشرق آسيا وأوروبا .

تنامي الخبرة الفنية والبيطرية في السودان وتوافر بحوث وتجارب علمية وعملية في هذا المجال شملت أمراض الحيوان وعلاجها والتهجين والتخصيب . وبرز في السودان علماء يعتبرون روادا على مستوى العالم ، بل إنهم مثلوا ركائز علمية في عدد من دول العالم .
ومع ذلك لا تتجاوز مساهمة قطاع الثروة الحيوانية في الصادرات 10% .
هذا الوضع يعكس فجوة ضخمة بين الواقع والإمكانات الحقيقية من وجهين : الوجه الأول

هو أن صادراتنا تتم في شكل حيوانات حية تُصدَّر دون تصنيع أو قيمة مضافة . والوجه الثاني هو الفارق الكبير بين سلالات أبقارنا ونظيرتها في العالم من حيث الحجم وانتاجية الرأس من اللحوم والألبان .
تكفي المقارنة مع دول أخرى لفهم حجم الخسارة ؛ فالبرازيل التي لا تزيد ثروتها الحيوانية كثيرًا عن السودان ، تصدّر لحوماً بأكثر من 8 مليارات دولار سنوياً وفق إحصاءات (ABIEC، 2022)، ويرجع ذلك إلى اعتمادها منذ عقود على سلالات محسّنة مثل النيلوري (Nellore) والبراهمان (Brahman) والأنجس (Angus) ، وبرامج تلقيح صناعي وانتخاب جيني ، وأنظمة تغذية وتسمين مكثفة ، وبنية تحتية متكاملة للمسالخ والمصانع .

ففي البرازيل يمكن أن يصل وزن الثور الحي في المزارع المتقدمة إلى ما بين 900–1,100 كجم ، وأحياناً يتجاوز 1,200 كجم ، مع نسبة تصافٍ 55–60%، ما يعطي ذبيحة بين 500 و650 كجم في الحالات المميزة ، أما المتوسط التجاري العام لوزن الذبيحة على مستوى البلاد فهو نحو 248 كجم (USDA، 2022).
وفي الأرجنتين، التي تعتمد على سلالات مثل الهيرفورد (Hereford) والشورتهورن (Shorthorn)، تصل أوزان الثيران في برامج التسمين المكثف إلى 950–1,050 كجم وزن حي، مع نسب تصافٍ مشابهة، ويبلغ متوسط

وزن الذبيحة التجاري نحو 226–230 كجم (FAO، 2023) . أما في السودان، فالأبقار والثيران المحلية نادراً ما تتجاوز 400–500 كجم وزن حي في نظم التربية التقليدية ، وغالباً بنسب تصافٍ أقل من 50% ، وهو ما يفسر انخفاض متوسط وزن الذبيحة الذي يدور حول 165 كجم فقط (وزارة الثروة الحيوانية السودانية، 2023).

الفجوة لا تقتصر على اللحوم ، فإنتاج الألبان يكشف ضعفاً أكبر ؛ إذ إن غالبية القطيع السوداني في النظم التقليدية يتراوح انتاجه ما بين 200 و500 لتر من الحليب سنوياً للبقرة الواحدة ، بينما في المزارع المحسّنة (وهي نسبة ضئيلة من القطيع) يمكن أن يصل الإنتاج إلى 1,400–2,100 كجم سنويًا .
في المقابل يبلغ متوسط إنتاج البقرة في البرازيل على مستوى القطيع الوطني نحو 2,200–2,300 لتر سنويً ، وفي المزارع التجارية الحديثة يتجاوز 5,000 لتر ، أما في الأرجنتين فيصل متوسط إنتاج الهولشتاين (Holstein) المكيّف إلى نحو 5,900 لتر سنوياً ، مع مزارع تصل إلى 8,000 لتر (FAO، 2023).

وبالنسبة للماعز فإن المقارنة تشير الى نفس المفارقة الكبيرة بين الماعز السوداني ونظيراتها في سلالات أخرى ، فمثلاً ماعز البوير (Boer) يصل وزن الجدي البويري التجاري إلى 30–35 كجم في عمر 5–7 أشهر بنسبة تصافٍ 47–50% ، أي ما يعادل نحو 14–17 كجم لحم صافٍ لكل رأس ، مقارنة بالماعز الصحراوي السوداني الذي يراوح وزن الجدي التجاري فيه بين 22 و26 كجم في عمر 9–12 شهرًا وبنسبة تصافٍ 43–45% ، أي ما يعادل نحو 9.5–11.5 كجم لحم صافٍ، وهو ما يعني أن البوير يعطي في المتوسط 4.5–6 كجم لحم إضافي لكل رأس خلال فترة زمنية أقصر بنحو 4–6 أشهر (ILRI، 2021).

ويمكن بسهولة ويسر النهوض بقطاع الثروة الحيوانية في السودان ليحقق العائدات المرجوة ، التي يمكن أن تحدث نمواً كبيراً في اقتصادنا الوطني يحوله إلي رقم مرموق في إقتصادات العالم ، ويحقق لشعبنا الرخاء والرفاه ، ويقلص الفجوة بيننا وبين المنتجين في العالم .
ويلزم لذلك اتخاذ الخطوات العملية اللازمة لتحقيق هذا الهدف وتشمل :

إصلاح البيئة العامة من خلال إزالة القيود المصطنعة عن إقتصادنا ، وتحريره تحريراً شاملاً وضبط أداء دولتنا بالتخلي عن البيروقراطية المعيقة التي تعسر الأداء ، وتنفر المستثمرين ، وضبط أجهزة الدولة بأنظمة رقمية متكاملة ، وفتح الأسواق بلا قيود ، وضبط مؤسسي صارم يضمن الشفافية والمنافسة العادلة . لأن تحقيق هذه الإمكانيات لا يتوقف عند تحسين السلالات أو إدخال تقنيات التسمين والإنتاج فقط .

استيراد نطف من سلالات لحوم عالية الأداء تتحمل الحرارة مثل النيلوري (Nellore) والبراهمان (Brahman) والأنجس (Angus) .
استيراد نطف من سلالات ألبان متأقلمة مع المناخ الحار مثل الهولشتاين (Holstein) والجيرسي (Jersey)، إضافة إلى الساهيول (Sahiwal) والغير (Gir)، ويمكن تهجين هذه السلالات مع الأبقار المحلية لتحسين الإنتاجية مع الحفاظ على القدرة على التحمل.
الاهتمام بثروة الضأن والماعز عبر برامج تحسين السلالات وإدخال أنواع متخصصة لإنتاج اللحوم مثل ماعز البوير (Boer)، الذي يمتاز بسرعة النمو وارتفاع معدل التحويل الغذائي وجودة اللحم وقدرته على التأقلم مع المناخ الحار .

الإهتمام بالإبل التي تمثل ثروة استراتيجية تفوق 4.5 مليون رأس ، يتراوح وزن الرأس الحي بين 350 و600 كجم بنسبة تصافٍ 50–55% ، أي ما يعادل 175–330 كجم لحم صافٍ ، وتتميز لحومها بانخفاض الدهون وارتفاع القيمة الغذائية .
وأمام السودان فرص جيدة لأسواق ذات طلب عال لمنتجاتنا الحيوانية بمميزات تفضيلية ومنها :
السوق السعودية ، الأقرب جغرافياً عبر البحر الأحمر ، التي تمثل أكبر مستورد عالمي للأغنام والماعز الحية بإجمالي واردات يتجاوز مليار دولار سنوياً (ITC، 2022) ، كما تستورد لحوم ماعز جاهزة بملايين الدولارات ، وهو ما يمنح السودان فرصة ذهبية لتصدير منتجات

للسعودية موثوقة المصدر ومطابقة للمواصفات .
ولحوم الإبل بمواصفاتها المتميزة مطلوبة في أسواق الخليج ، إضافة إلى القيمة العالية للجمال المخصصة للسباق ، التي يمكن بيعها بأسعار تصل إلى مئات الآلاف من الدولارات للرأس الواحد إذا كانت من سلالات معروفة النسب وخضعت لتدريب احترافي (FAO، 2023).
تطوير قطاع النحل ، حيث يمتلك السودان إمكانات عالية لإنتاج أنواع متعددة من العسل مثل عسل الهشاب والسدر والطلح والدوم والبرسيم ، وهي أنواع تتميز بمذاقها الفريد وقيمتها الغذائية العالية . تعطي الخلية التقليدية بين 10 و16 كجم سنويًا، ويمكن مضاعفة

الإنتاج باستخدام الخلايا الحديثة وإدارة موسم الفيض. وتستورد السعودية وحدها أكثر من 18 ألف طن عسل سنويًا بقيمة تقارب 66 مليون دولار (WITS، 2023) ، ما يمنح السودان فرصة كبيرة لغزو هذه السوق القريبة بمنتجات ذات موثوقية وجودة عالية .
وعند اقتران هذا الإصلاح بتحسين القطيع وتحديث أساليب الإنتاج، يمكن أن تتحول الثروة الحيوانية

والمنتجات المشتقة منها ، من الأبقار إلى الماعز والإبل والنحل ، والثروة السمكية إلى ركيزة رئيسية للأمن الغذائي والنمو الاقتصادي ، ورافعة حقيقية لنهضة شاملة ، خاصة إذا استثمر السودان موقعه القريب من الأسواق العربية وقدم منتجاته بجودة ومعايير عالمية قادرة على المنافسة.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى