مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر…وزارة التحول الرقمي… قرار تنقصه البيئة الملائمة ويهدده ضعف الصلاحيات والحرس القديم

 محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر…وزارة التحول الرقمي… قرار تنقصه البيئة الملائمة ويهدده ضعف الصلاحيات والحرس القديم

 

 

بشرى كبرى لمواطني السودان تنبيء بانقضاء عهد البيروقراطية العقيمة وبطء الإجراءات وضياع وتأخير الحصول على الحقوق . وذلك بإنشاء وزارة للتحول الرقمي بما يعني إخضاع جميع أجهزة الدولة للنظام الرقمي الذي يضبط أداءها ضبطاً كاملاً لا يداخله خلل .
إنها أعظم وأكبر خطوة في تطوير النظام الإداري في تاريخ الدولة السودانية اتخذتها حكومة الأمل وهي خطوة تنبيء عن بعد نظر وسعة أفق عند متخذي القرار في السلطة العليا .

انها خطوة تستحق التهليل والاحتفال مثل تحرير مدني وتحرير الخرطوم لأنها في حقيقتها تحرير لنظام إدارة الدولة من كل عللها وأدوائها .
عانى السودانيون لعدة عقود من إجراءات الدولة والبيروقراطية العقيمة التي جعلت حصولهم على الخدمات وحقوقهم الأساسية أمراً بعيد المنال وشاقاً في احسن الفروض .

أربعة وخمسون مقالاً نشرناها يوميا دون انقطاع مابين الرابع والعشرين من مايو الماضي حتي تاريخ اليوم نادينا فيها بالتحول الرقمي ، وبينا فيها مزاياه كوسيلة وحيدة لعلاج أدواء الدولة وعلل أدائها .
وأوردنا شواهد في عدد كبير من مرافق الدولة ووزاراتها ونماذج لمشاكل الأداء في ظل غياب الرقمنة .
ومن ذلك ما عددناه في مقال عن الخدمة العامة نشر قبل خمسة أيام في 23 يوليو الجاري ذكرنا فيه علل الدولة الناشئة من عدم الرقمنة نوجزها فيما يلي :

*الفساد المالي
*المحاباة والمحسوبية وسوء استخدام الصلاحيات
*البيروقراطية القاتلة .
*الفساد الصغير
*سوء البنية التحتية في مراكز الخدمة، وغياب الربط الإلكتروني بين المؤسسات .
*ضعف تأهيل الموظفين .
*سوء المخاطبة وجفاف التعامل مع طالبي الخدمة
*ضيق منافذ تقديم الخدمة
*تعدد مواقع تنفيذ إجراءات المعاملة الواحدة .
◀️ وقلنا في المقابل إن الصورة المثلى للخدمة العامة المعاصرة يمكن تلخيصها في :

📌حكومة ذكية مترابطة إلكترونياً،
📌موظفون مدربون مهنياً وسلوكياً .
📌لا مركزية الخدمة .
📌إتاحة الخدمة عن بُعد عبر الجوال أو الإنترنت .
📌تمكين المواطن من الدفع والتحصيل بحرية عبر قنوات متعددة .

📌سن قوانين صارمة لضبط الشفافية والمساءلة .
📌تأسيس وحدة قومية مستقلة لخدمة المواطن،
وقد استبشرنا خيرًا بتعيين وزارة جديدة متخصصة في “التحول الرقمي والاتصالات”، فهو بلا شك قرار ذكي طال انتظاره، وخطوة محورية نحو تأسيس الدولة الحديثة، التي يُفترض أن تكون رقمية في بنيتها، ذكية في أدواتها، متصلة بعصرها حقاً، لا فقط مظهراً وشكلاً.

وقلنا في أكثر من خمسين مقالاً أن هذا الجناح الرقمي المفرد، لا يمكن أن يُحلّق دون جناحه الآخر: التحرير الشامل للاقتصاد .
فالرقمنة ليست ترفاً تقنياً، ولا مجرد نقل الإجراءات من الورق إلى الشاشات، بل هي مشروع لإعادة بناء العلاقة بين المواطن والدولة، وبين الدولة والسوق وهي في حقيقتها :
*بنية متكاملة لضبط المعاملات، وتيسير الإجراءات .
*باب مفتوح لتعزيز الشفافية، وردم فجوة الثقة بين المواطن والدولة .

*مكافحة الفساد المؤسسي .
*سد الباب امام القرارات الخاطئة وسوء استخدام الصلاحيات وتجاوزها .
*تسريع الاجراءات وتيسير الحصول على المعلومات والتحقق منها .
*جعل المعاملات البينية في أجهزة الدولة فورية وسلسة .
👈ومع ذلك، تظل الرقمنة أداة بلا فاعلية ما لم تُزرع في بيئة محرّرة من القيود والتشابكات والضبابية والاحتكارات.

فالشروع في رقمنة متكاملة في بيئة غير محررة الإقتصاد ، أشبه ما يكون بتجهيز حفير لتربية الأسماك: نثر البيوض، وتوفير الغذاء، وتركيب أجهزة الرصد والتحكم، دون ضخ الماء الذي تنمو فيه الأسماك. فلا النتائج تُرجى، ولا الموارد تُثمر، ولا الغايات تُنال. فكما أن الماء هو الوسط الطبيعي الذي تنمو فيه الأسماك، فإن التحرير هو الوسط الطبيعي الذي تُثمر فيه الرقمنة، لا الحفر الجافة.

قد تُحدث الرقمنة في هذه البيئة غير الملائمة بعض التحسينات الموضعية، من حيث تسريع الإجراءات أو تقليص بعض مظاهر الفساد، لكنها لا تلبث أن تتحول إلى ترحيل للفوضى من الورق إلى الشاشة. وهنا، تتوقف الرقمنة عن كونها محركاً للتغيير، لتصبح واجهة شكلية، لا تعالج جذور الخلل ولا تُحدث التحول الجوهري المنشود.
تحرير الاقتصاد لا يعني الفوضى أو الانفلات، بل هو

تحرير مدروس ومنضبط، يضع قواعد عادلة للمنافسة، ويُحرر الأسواق من القرارات المزاجية، ويُزيل التداخلات بين السلطات، ويوحّد النوافذ، ويُرسّخ الشفافية، ويربط كل ذلك برقمنة قادرة على الرصد، والمساءلة، وتفعيل القانون.
وقد أكدنا مرارًا، في سلسلة مقالاتنا، أن البيئة الكلية المرقمنة، المحررة، المحمية بالقانون، هي وحدها القادرة على ضمان تدفق الاستثمارات، واستمرار المشروعات، وتشغيل القوى البشرية، وتوفير الإيرادات للدولة والقطاع الخاص. كما تُمكّن هذه البيئة من بناء منظومات أمنية قوية، وتكامل القطاعات، وضمان الانسياب الرقمي الكامل بين كافة مؤسسات الدولة، بما يُحقق نهضة متوازنة وشاملة.

فلا نهضة بلا تكامل، تماماً كما لا تسير العربة بعجلة واحدة أو بمحرك معطوب. الجزء المعطوب يعيق الكل، ويحوّل الحراك إلى وهم، والجهود إلى عبث.
وفي هذا السياق، فإن المستثمر، سواء أكان محلياً أم أجنبياً لا يغريه وجود التطبيقات الذكية وحدها، بل يهمه بالدرجة الأولى بيئة قانونية مستقرة، وسوقاً معلناً، ومؤسسات شفافة، لا شبكات موازية، ولا قرارات فوقية تتحكم في المصير.

وفي بيئة محرّرة حقيقية، تتحول الرقمنة من مجرد أداة إدارية إلى منصة لتوازن السوق، تولد فيها الثقة، وينشط فيها رأس المال، ويتسع التشغيل، وترتفع الكفاءة الإنتاجية، وتستقر العملة بفعل التوسع في الصادرات والحراك الاقتصادي الطبيعي. وحتى إن واجهت العملة ظروفًا طارئة، فإن الدولة حينها تكون قادرة على التعويض والتدارك، لا التبرير والتأزيم.

لكن لكي تتحقق هذه الرؤية المتكاملة، لا يكفي استحداث وزارة جديدة ، بل لا بد من تمكين وزارة التحول الرقمي والاتصالات بالصلاحيات الكاملة، وربطها مباشرة بمكتب رئيس مجلس الوزراء، لتقود مشروع التحول الرقمي في كافة الوزارات والهيئات، وتُنزل الحزمة الرقمية كاملة دون اجتزاء، أو تنازع صلاحيات، أو مقاومة مؤسسية.

وعليه، فإن قرار إنشاء هذه الوزارة هو قرار جميل وواعد، بشرط أن يُربط بمنظومة إصلاح شاملة، وبصلاحيات فعلية تُمكّنها من قيادة التحول الرقمي بوصفه مشروعاً وطنياً عابراً للمؤسسات، يدمج الدولة في عصرها ،ليس في مظهرها فقط إنما يضعها على عتبة النهضة المنتجة، الذكية، المرنة.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى