محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..تدهور الخدمة العامة: دولة تهين مواطنيها هل تحل مشاكلهم الكبرى!!!

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..تدهور الخدمة العامة: دولة تهين مواطنيها هل تحل مشاكلهم الكبرى!!!
الدولة التي تُهين مواطنيها في مراكز خدمتها، لا يُرجى منها أن تُنصفهم في القضايا الكبرى . والدولة في السودان أصابتها رياح التدهور المؤسسي، خاصة في العقود الأخيرة، حتى تحوّلت في كثير من الأحيان إلى نقطة تعب ويأس للمواطن السوداني فأصبح لسان حاله يتساءل هل هذه الدولة راعية لمواطنيها أم قاهرة لهم !!!
الخدمة العامة ليست مجرد معاملة حكومية بل هي
مرآةالدولة في عين المواطن والمختبر الحقيقي الذي يثبت ما إذا كانت الدولة – وهي كذلك – أحد الأعمدة التي يرتكز عليها العقد الاجتماعي في الدولة الحديثة، إذ من خلالها يشعر المواطن بقيمة انتمائه، ويُقاس بها مدى نجاعة الحكومات وقدرتها على ترجمة السلطة إلى خدمة.
الخدمة العامة هي مجموع الإجراءات والخدمات التي
تقدمها الدولة لمواطنيها، سواء ورقياً أم إلكترونياً، مركزياً أو لا مركزياً، مجاناً أو برسوم. وتشمل: استخراج الوثائق، الجوازات، المرور، الضرائب، التراخيص التأمينات، الخدمات الإلكترونية، مراكز خدمات الجمهور في مختلف المجالات. وغيرها .
بدأت هذه الخدمات بشكل منظم منذ عهد الإدارة البريطانية، حيث كانت تُدار بكفاءة عالية نسبياً، وخضع موظفوها لنظام صارم من المحاسبة . وبعد الاستقلال،
استمرت لفترة بمستوى مقبول من الانضباط، قبل أن
تبدأ انحدارها وتدهورها في عهد الحكم الوطني للأسف بينما كان ينبغي ان تشيد الدولة الوطنية نظاماً أفضل وأكفأ يحفظ كرامة المواطن ويحسن خدمته ويرتقي بأداء الدولة لأن المفترض أن يكون الحاكم الوطني أكثر حرصاً من المستعمر.
ومن أبرز مظاهر التدهور:
*البيروقراطية القاتلة، وتعقيدات الإجراءات دون مبرر .
*الفساد الصغير الذي يُبتز به المواطن في أبسط معاملاته .
*سوء البنية التحتية في مراكز الخدمة، وغياب الربط الإلكتروني بين المؤسسات .
*ضعف تأهيل الموظفين، وتلاشي الشفافية والمساءلة، حيث لا يُسأل أحد عن تعطيل حياة الناس أو انتهاك كراماتهم ، او إضاعة حقوقهم أو تأخير حصولهم عليها دون مبرر .
*سوء المخاطبة وجفاف التعامل مع طالبي الخدمة بصورة مجملة رغم وجود فئة تتعامل تعاملاً جيداً .
*ضيق منافذ تقديم الخدمة الذي نجم عنه الزحام والصفوف الطويلة في كثير من الخدمات .
*تعدد مواقع تنفيذ إجراءات المعاملة الواحدة وقد تتطلب الذهاب الي عدة مكاتب في المؤسسة وربما في أكثر من منطقة.
*وجود إجراءات مهينة أو لا معنى لها على أحسن الفروض مثل (شهادة الحياة) التي تطلب من المعاشيين كل سنة حيث أن الدولة لا تتعامل مع المعاشي إلا إذا أحضر شهادة من الوحدة الإدارية تشهد له أنه حي . وبعد ذلك يمكن أن يرزق من معاشه. فلا يكفي أن يحضر المعاشي بجلده وعظمه (فهو في الغالب لا شحم ولا لحم له) يحمل بطاقته الشخصية ورقمه الوطني وجواز سفره ومع ذلك لا يعترف له بأنه حي لم يمت بعد .
◀️ في المقابل فإن الصورة المثلى للخدمة العامة المعاصرة يمكن تلخيصها في :
📌حكومة ذكية مترابطة إلكترونياً، يتلقى فيها المواطن خدماته عبر نافذة موحدة أو منصة رقمية شاملة، وفي مراكز عصرية نظيفة مريحة، ذات شفافية تامة، وإجراءات معروفة مسبقاًِ .
📌موظفون مدربون مهنياً وسلوكياً باعتبارهم الواجهة المباشرة للدولة .
📌لا مركزية الخدمة كأمر حتمي، بحيث تُقدَّم في الأقاليم دون الحاجة للذهاب للعاصمة .
📌إتاحة الخدمة عن بُعد عبر الجوال أو الإنترنت دون الحاجة للحضور الفيزيائي.
📌فتح المجال للقطاع الخاص للتنافس الشريف في تقديم بعض الخدمات غير السيادية .
📌تمكين المواطن من الدفع والتحصيل بحرية عبر قنوات متعددة، وإزالة القبضة البيروقراطية التي تخنق التحديث وتُعطل الإجراءات.
📌سن قوانين صارمة لضبط الشفافية والمساءلة .
📌تأسيس وحدة قومية مستقلة لخدمة المواطن، ذات ولاية فنية ومؤسسية، تمنع التسييس وتضمن الجودة.
◀️ غير أن تحقيق هذا النموذج لا يتم بالتدريب أو الرقمنة وحدهما، بل عبر تحوّل جذري في بنية الدولة نفسها .
◀️ هذا التحول يرتكز على ركنين أساسيين لا غنى عنهما:
أولاً التحرير المطلق الكامل للإقتصاد بمعنى تحرير السوق الخدمي
ثانياًِ الأنظمة الرقميةالشاملة المتكاملة، عبر بناء قاعدة بيانات وطنية موحدة ومحمية، ووضع نظم إدارية تربط كافة الجهات ذات العلاقة .
◀️ لكن ما يعيق تحقيق هذا النموذج في السودان اليوم ليس نقص المعرفة، بل غياب البيئة العامة الصالحة، وهي لا تتحقق إلا عبر تطبيق سياسة دولة مركزية تعتمد التحرير الاقتصادي الشامل والرقمنة المتكاملة، لا كعناوين تجميلية بل كمنهج حاكم. ونقصد بالرقمنة المتكاملة (Integrated Digitization) إصلاحاً جذرياِ لعملية التحول الرقمي (Digital Transformation)، يتجاوز مجرد استبدال الورق بالحاسوب، ليعيد هيكلة العمليات، والقوانين، والربط المؤسسي، والتكامل مع الذكاء الاصطناعي.
لقد أثبتت التجارب الواقعية في عدد من الدول أن نجاح الخدمات العامة مرهون بتحقيق هذين الركنين. ففي كينيا، مثلاً، أسهمت منصة eCitizen في ربط عشرات الخدمات الحكومية، مما قلّل من الرشوة، ورفع من كفاءة الأداء. وفي كوريا الجنوبية، أصبح المواطن يصل إلى أكثر من 24 خدمة من خلال منصة Gov24، بتكامل تام بين الجهات، وشفافية كاملة في كل إجراء.
إننا اليوم بحاجة ماسة لإعادة تأسيس علاقة جديدة بين الدولة والمواطن، قوامها الخدمة، وعدتها التحرير والأنظمة الذكية. ففي عالم اليوم، لا تُقاس الدول بما ترفعه من شعارات، بل بما تُقدّمه من خدمة، وبمدى كفاءة موظف النافذة، وسرعة استجابة المنصة الرقمية، وكرامة المواطن في الطابور أو أمام الشاشة.
محمد عثمان الشيخ النبوي