محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..فرصة ذهبية لإصلاح وتطوير المنظومة العدلية

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..فرصة ذهبية لإصلاح وتطوير المنظومة العدلية
خطوة صحيحة مباركة قامت بها وزارة العدل بإقامة الملتقى التفاكري حول الرؤية الاستراتيجية لتطوير الأداء المؤسسي لتعزيز سيادة حكم القانون . ولعمري أنها عمل صائب متقدم وفكرتها تنم عن جدية وتعقل مرجو أصلا في القضاء والمنظومة العدلية كلها .
فمن جانب هي فرصة لاستحلاب فكر دهاقنة القضاء والقانون من علماء أجلاء وخبراء ممارسين . ومن جانب آخر هي بحث لتكوين رؤية استراتيجية للخروج من التخطيط المرحلى والرؤى القصيرة والقاصرة . والرؤية الاستراتيجية يمكن على هداها التخطيط طويل المدي واستيعاب التطورات المرتقبة في تطور المجتمع وأنماط الحياة وما يستجد فيها بما يمكن من استحداث القوانين والإجراءات المناسبة لها .
وقد جاء هذا الملتقى المهم في وقته المناسب ونحن على أعتاب تحول جذري كامل في كل شؤون بلادنا بما يشبه ميلاد دولة جديدة الأمر الذي يستدعي معالجة جذرية كاملة لكل أوجه الحياة وتلافي العجز والقصور بوضع حلول جذرية لمشكلات البلاد ليس بالترقيع انما بالتجديد والأنشاء الكامل .
ومعلوم أن منظومة العدالة تواجه تحديات جسيمة ليست وليدة اللحظة بل هي تراكمات ثقيلة من التشوهات والتدخلات وضعف البنية والموارد، أثرت على أداء مؤسسات العدالة، من القضاء إلى النيابة إلى الشرطة، وعطّلت قدرتها على بسط القانون بفعالية وطمأنينة. ورغم ذلك، لا تزال جذوة الأمل مشتعلة، إذ يعمل في هذه المؤسسات رجال ونساء شرفاء، بأخلاق نادرة، وفي
ظروف بالغة القسوة، وما يحتاجونه ليس أكثر من بيئة عادلة تحررهم من الضغط، وتوفر لهم أسباب العدل.
وإحدى مظاهر الخلل الكبرى تكمن في التداخل غير المحمود بين السلطات، ما يهدد حياد القضاء ويُضعف استقلال النيابة.
أضف إلى ذلك الوضع المعيشي المتردي للقضاة وأعضاء النيابة والشرطة، مما يجعلهم بين مطرقة الواجب وسندان الحاجة، ويستنزف طاقتهم الذهنية والنفسية، في وقت يُطلب منهم فيه أعلى درجات الحياد والانضباط
تزيد الطين بلة هشاشة البنية التحتية للمحاكم والأقسام، وتعقيد الإجراءات، وتأخر الفصل في القضايا، حتى بات المواطن يعتبر الذهاب للمحكمة أزمة في حد ذاته.
كما أن البيئة الإقتصادية المتردية تجعل أصلاح المنظومة العدلية وتمكينها من أداء واجبها شبه مستحيل فلا يمكن في ظل اقتصاد مكبل بالقيود تكبيلاً أدي الى تدهوره ووقف تطوره وحجب تدفق الاستثمارات والاموال إلى شرايينه لا يمكن المناداة بخفض معدلات الجريمة أو توفير الامكانات التي تمكن المنظومة العدلية من الانطلاق الكامل لأداء واجباتها .
يضاف الى ذلك أن ضعف وارتباك أداء الدولة ومؤسساتها يعوق كثيرا أداء أجهزة العدالة .
هذا الوضع لا يُصلحه التمنّي، ولا تمكن معالجته إلا برؤية استراتيجية متكاملة تشمل المنظومة العدلية بأضلاعها الثلاثة القضاء والنيابة والشرطة من كل الأوجه المحيطة بها وتشمل:
تحرير حقيقي للقضاء وترسيخ مبدأ استقلال القضاء في الدستور، لا كشعار، بل كقيد يمنع أي تدخل من السلطة التنفيذية في سير العدالة .
دفع أعلى الرواتب في الدولة للعاملين في المنظومة العدلية والأمنية والتعليمية والصحية، لأنهم أهم أعمدة الدولة ، وما من نهضة تُبنى إن هم انهاروا أو انهارت الثقة فيهم.
توفير دعم مالي كبير لا يتوقف عند تحسين الرواتب، بل يشمل تطوير المكاتب، وتأمين الخدمات، وخلق بيئة تجعل العدالة مهنة مجزية محمية، لا ملاذاً اضطرارياً.
بناء أنظمة عدلية حديثة قادرة على مجاراة العصر بانشاء تكوين عصري متطور لأجهزتنا العدلية يرفع كفاءتها ويُهيئها لمجابهة التحديات الحديثة بتطوير مناهج التعليم لطلاب القانون وبالتدريب ورفع كفاءة القضاة حيث أن القاضي والمحامي الناجح لا تكتمل أدواته بدون تكوين معرفي مزدوج، ولذلك أنشأت دول عديدة برامج تخصص مزدوج تجمع القانون مع مجالات أخرى كالإدارة والاقتصاد والتقنية والعلاقات الدولية وعلم النفس وغيرها. وقد ثبت نجاح هذا المنهج في تجارب الدول المتقدمة ومن واجبنا أن نلحق بهذا الركب .
إنشاء نظام عدالة رقمية ذكية، تبدأ من بلاغات إلكترونية، وتحال تلقائياً للنيابة المختصة، وتُحدَّد جلسة المحاكمة، ويُخطَر الشهود والمتهمون برسائل فورية. هذا الربط الشبكي الموحد بين الشرطة والنيابة والمحاكم سينهي فوضى الأوراق، ويضبط سير العدالة، ويمنع التلاعب، ويقلّص زمن الإجراءات بنسبة عالية جدا بل في السودان تحديدًا ربما يتجاوز الأثر أضعاف ذلك. ويمكن بذلك أن يتحول السودان في سنوات قليلة ليصبح نموذجاً يحتذى .
النيابة العامة يجب أن تُفصل تماماً عن وزارة العدل، وتكون مؤسسة سيادية مستقلة، لتضمن حيادها الكامل، وتُقطع الطريق أمام أي توظيف سياسي.
إصلاح جهاز الشرطة، ليكون أداة لحماية الحقوق لا كابوساً يُخشى، وتطوير شروط القبول والتدريب داخله ليواكب المعايير الدولية، وترقية أخلاقيات المهنة وورفع كفاءة الأفراد وتزويدهم بالمعارف اللازمة لرفع كفاءة أدائهم ورفع المامهم بالتقنيات الرقمية الحديثة.
تقوية وإنفاذ القوانين التي تمنع القضاة وأعضاء النيابة والشرطة من مزاولة التجارة أو العمل السياسي طيلة فترة الخدمة، ضماناً للنزاهة الكاملة وتجنّب عدم الحياد الكامل .
أن تتولى الهيئة القضائية تكوين مفوضيات رقابية مستقلة لمساءلة الأداء القضائي والنيابي والشرطي تدعم نظام الرقابة القائم حاليا في هذه المنظومة وتمثل حجر الأساس في الإصلاح الجذري الشجاع وتسد الباب أمام أي انحرافات .
توسيع المساعدة القانونية المجانية عبر مكاتب عامة للمرافعة كمبدأ أصيل لحماية الحقوق ليحصل الفقراء على محامٍ كما يحصل عليه الأغنياء .
تحرير الإقتصاد تحريراً حقيقياً كاملاً ليتمكن من النهوض ويفي بمتطلبات العدالة ويهييء المجتمع لحياة تقل فيها الجريمة بسبب الفقر . وفي نفس الوقت تتوافر الأمكانات المالية اللازمة لأداء عدلي مقتدر . فكل ما سبق من إصلاحات يحتاج إلى قاعدة اقتصادية قوية. فالحديث عن إصلاح عدلي مع اقتصاد مكبل مفلس، يصبح شعارات جوفاء. ضبط أداء جميع أجهزة الدولة بنظام رقمي شامل يحقق التعامل الفوري بينها وبين المنظومة العدلية وبين كل ذلك والمواطنين .
وبدهي ومعلوم أن لا دولة بلا عدالة، ولا عدالة بلا قانون، ولا قانون بلا استقلال فعلي وكامل لمنظومة القضاء والنيابة. هذه حقيقة مطلقة أثبتها التاريخ، وأكدتها تجارب الأمم التي نهضت بعد انهيارات، فكان العدل أول ما أعاد بناء الثقة بين الدولة ومواطنيها .
وفي السودان حين يشعر المواطن أن القانون يحميه، فإنه لا يلجأ لقبيلة تسنده ولا يبحث عن بندقية تحميه . وحين يطمئن المستثمر إلى نظام عدلي مستقل، تتدفق رؤوس الأموال وتتولد الوظائف وتزدهر التنمية. أما حين تغيب الثقة في العدالة، تنبت الفوضى من كل جانب، وتتحول الدولة إلى مهب للاضطرابات.
نحن لا نحتاج لمعجزات، بل إلى إرادة سياسية صادقة، وقرارات واضحة، تضع دولة القانون فوق الجميع، وتصنع منظومة عدلية تحمي الضعيف وتردع المتعدي، وتُطمئن المستثمر، وتحفظ كرامة الناس.
في كل أجهزة العدالة رجال ونساء يعرفون قيمة الشرف والضمير، ولا ينقصهم سوى بيئة مساعدة، تفتح أمامهم أبواب الأداء المهني الحقيقي، ليكونوا فعلاً حُماة للحقوق وسياجاً للحرية.
محمد عثمان الشيخ النبوي