الركابي حسن يعقوب يكتب: تحديات سياسية على طاولة رئيس الوزراء

الركابي حسن يعقوب يكتب: تحديات سياسية على طاولة رئيس الوزراء
رئيس الوزراء الإنتقالي الدكتور كامل إدريس ومنذ أدائه اليمين نهاية مايو الماضي ظل يرزح تحت ضغوط هائلة من الداخل والخارج، وإن كانت الضغوط الداخلية هي الأكبر حيث تنتظر جماهير الشعب السوداني بكافة قطاعاته من الرجل الكثير، وتعقد عليه آمال عراض أن ينجح في إحداث إختراق في ملفات عديدة سياسية واقتصادية تتسم بالتعقيد الشديد.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن رصيد الرجل من الارتياح والقبول الشعبي بتعيينه رئيساََ للوزراء آخذ في التزايد بوتيرة سريعة رغم أن رد الفعل إزاء تعيينه في البداية كان مثار جدل واختلاف ما بين مؤيد ومعارض ومتحفظ.
ويمكن القول أن هذا القبول الشعبي المتنامي لكامل إدريس كان نتاج مقارنة شاملة أجراها (العقل الجمعي) للتيار الشعبي الذي هو جماع رأي رجل الشارع العادي بسلفه المستقيل عبد الله حمدوك، حيث رجّحت نتيجة هذه المقارنة كفة الدكتور كامل إدريس ولعل السمة البارزة في الفارق بين الرجلين ذلك البعد الشعبي الذي ظهر به كامل إدريس والذي افتقده حمدوك حيث كان
حمدوك أبعد ما يكون من نبض الشعب وهمومه ، أوليجاركي النزعة ، نخبوي الهوى حصر نفسه في دائرة ضيقة من حفنة من السياسيين والناشطين مزدوجي الجنسية مثلوا له حاضنة سياسية إنكفأ عليها ، ولم ترصد له أية مخاطبات أو لقاءات جماهيرية، أو قرارات تصب في صالح فك الضائقة الإقتصادية وتخفيف أعباء المعيشة التي من أجلها حدث التغيير.
تفادى كامل إدريس الوقوع في ذات الخطأ الذي وقع فيه حمدوك فكان خطابه للأمة السودانية عقب أدائه اليمين خطاب لامس تطلعات ورغبة الشعب السوداني وأولوياته الملحة المتمثلة في قضايا الإقتصاد والخدمات والمعيشة وقضايا النازحين بسبب الحرب ، وجاء تفقده ومعايدته للأسر في دور الإيواء للنازحين في بورتسودان صباح عيد الأضحى أولى لفتاته البارعة ووجدت استحساناََ وصدىََ
طيباََ لدى الشعب السوداني . كما أنه إضافة إلى ذلك لم يظهر إنحيازاََ إلى جهة سياسية بعينها وخلت لغة خطابه من أي شعارات سياسية أو آيدولوجية وغلبت عليها السمة البراغماتية والتوجه الوطني المستقل مصداقاََ لما أعلنه في خطابه الأول أنه يقف على مسافة واحدة من كل القوى السياسية دون إنحياز لأية
قوى على حساب القوى الأخرى.
ورغم هذا الوضوح في موقف ورؤية رئيس الوزراء الجديد فيما يتعلق بالجانب السياسي ، إلا أن طبيعة العمل السياسي في السودان ظلت طيلة فترة الحكم الوطني الممتدة زهاء السبعة عقود منذ الإستقلال تقوم على الصراع الحاد بين التيار اليساري واليميني وما يصحب هذا الصراع من استقطاب حاد بينهما ومحاولة كل تيار الاستحواذ على مفاصل السلطة والقيم السياسية وحرمان التيار الآخر المناوئ منها.
وهو تحدِ كبير يواجهه كامل إدريس في مساره السياسي الذي سيسلكه بعد إتمام تشكيل حكومته ومباشرة مهامه السياسية ، ويثار السؤال هنا عن قدرة الرجل في احتواء وإدارة الصراع بين اليمين واليسار دون أن يصبح طرفاََ فيه، وما إذا كان سينجو من الوقوع في مصيدة أحد
التيارين أم سينجح في المحافظة على استقلاليته وحياده والبقاء في نقطة مركز دائرة الاستقطاب على مسافة واحدة من محيط الدائرة وبالتالي يكون في مأمن من التأثر بفعل قوة الجذب و الاستقطاب بما يمكنه من إدارة شؤون الحكم بمنأى عن تأثيرات القوى السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
هذا محك سيجد رئيس الوزراء نفسه فيه وعليه أن يستعد لمجابهته باكراََ بدءاََ من مشاوراته الجارية الآن لاختيار ما تبقى من طاقمه الوزاري الذي يجب أن يكون من التكنوقراط الخلص الذين ليس لهم سابق انتماء حزبي أو تنظيمي. وهذا تحدِ يشكل واحداََ من أهم الضغوط التي عليه أن يتعاطى معها بحنكة.
تحدي سياسي داخلي آخر يواجهه رئيس الوزراء أكثر تعقيداََ كونه ذي بعد خارجي وهو قضية وضع الإسلاميين ومستقبلهم في الحياة السياسية وجدلية إشراكهم في السلطة أو إقصائهم عنها.
وينبع تعقيد هذا التحدي من واقع أن (ثورة ديسمبر) التي كان اليسار هو الحاضنة السياسية لها هي التي أطاحت بحكم الإسلاميين ، وأعقب ذلك ذيوع خطاب كراهية متطرف من قبل تيار اليسار ضد الإسلاميين ومورست ضدهم صنوف من التنكيل والإقصاء المتعمد كانت سابقة لم تشهدها الساحة السياسية في السودان من قبل.
غير أن حرب الخامس عشر من أبريل 2023، وإنحياز الإسلاميين إلى صف الجيش السوداني، وإنخراطهم الفعلي في القتال تحت إمرة الجيش عبر تشكيلاتهم القتالية ضمن المقاومة الشعبية ضد ميليشيا الدعم السريع الإرهابية ، قلب الموازين رأساََ على عقب وتغيرت نظرة الرأي العام التي كانت متأثرة بحملة الدعاية السالبة
من قبل حكومة حمدوك ضد الإسلاميين، فإنحياز الإسلاميين للصف الوطني خلف الجيش وحركات الكفاح المسلح المساندة له محا ذلك الأثر السالب والصورة الذهنية العدائية تجاههم ،بل صاروا شركاء أساسيين في حملة الاستنفار والدفاع ضد تمرد الميليشيا الإرهابية ، وتراجعت تماماً تلك الأصوات الرافضة لمشاركتهم في الحياة السياسية قبل الحرب، خاصة وأن الميليشيا جعلت من القضاء على الإسلاميين هدفاََ لها ظلت تجدد الإعلان عنه وما تزال، وتصر على أنها لن توقف الحرب إلا بعد تحقيقها هذا الهدف، ويأتي التأكيد المتكرر لرئيس مجلس السيادة الإنتقالي القائد العام للجيش عبد الفتاح البرهان
في أكثر من مناسبة بأن القوى السياسية الأحق بالتمثيل في السلطة والحياة السياسية لما بعد الحرب هي تلك القوى التي إختارت الإنحياز لجانب الجيش والتي وقفت داعمة للدولة في حربها ضد ميليشيا الدعم السريع وجناحها السياسي، يأتي هذا التأكيد المتكرر معززاََ لموقف الإسلاميين كشريك فاعل في الحرب والسلم.
لكن تبقى العقدة الأكثر صعوبة والتي تنتظر رئيس الوزراء كامل إدريس بخصوص الإسلاميين وهي أن نظرة القوى الدولية خاصة الغربية وبعض القوى الإقليمية تجاه الإسلاميين ما تزال على ما هي عليه والتي تسعى إلى إقصائهم وعدم تمكينهم من دفة السلطة والحيلولة دون عودتهم مرة أخرى لدائرة الفعل في الحياة السياسية في السودان، وهو ما يدل عليه ذلك التراخي والتباطؤ من هذه القوى تجاه حل الأزمة في السودان، بل أكثر من ذلك إنحياز بعضها لجانب ميليشيا الدعم السريع من خلال دعمها للجناح السياسي المدني للميليشيا بغية تحقيق هدفها المعلن وهو محاربة الإسلاميين!!
هذا الموقف المتناقض ما بين الداخل والخارج في النظر إلى الإسلاميين هو المعضلة التي تنتظر رئيس الوزراء كامل إدريس، إذ عليه إيجاد نقطة توازن بين الموقفين بما يحافظ على وحدة الصف الوطني الداعم للحكومة والجيش بقوة والإسلاميين في موضع القلب من هذا الصف من جهة، وبين الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع القوى الخارجية الفاعلة المناوئة للاسلاميين و عدم استعداء هذه القوى في المرحلة القادمة تجنباََ لمزيد من الاحتقان وتفادياً لإضافة المزيد من التعقيدات للأزمة.
عقدة أخرى على طريق رئيس الوزراء الجديد وهي قضية التفاوض مع ميليشيا الدعم السريع وحليفها السياسي، وقد تصاعدت الأصوات والنداءات من قبل الولايات المتحدة مؤخراََ التي تطالب من سمتهم (طرفي الحرب) باللجوء إلى التفاوض لإيقاف الحرب تأسيساََ على ما تراه إدارة ترامب بأن الحرب لن تحسم بالسلاح.
وتكمن المشكلة في هذا المنحى أن الرأي العام السوداني وقواه السياسية الوطنية الحية والجيش والقوات المساندة له يرفضون مبدأ التفاوض مع الميليشيا وجناحها السياسي وأي صيغة تسوية معها تعيدها مرة أخرى إلى المشهد السياسي في السودان.
إنها مهمة شائكة في إنتظار رئيس الوزراء وهو على مقربة من إكمال إختيار وزرائه ومن ثم البدء في إدارة الجهاز التنفيذي وفقاً لما سبق وأعلنه من رؤى وبرامج وخطط وجدت استحساناََ لا تخطئه العين، وقد نجح الرجل في تجاوز أولى المطبات السياسية بسلام والتي تمثلت في قضية الحقائب الوزارية الخاصة بحركات الكفاح المسلح وما اكتنف هذه القضية من جدل وشد وجذب وخاض فيه الخائضون سلباََ وايجاباََ ، وبرأيي أن هذا الجدل كان صحياََ وطبيعياََ – رغم بعض نتوءاته الحادة – ولا يدعو إلى القلق إذ يشكل صورة من صور (المدافعة) وتمريناََ ديمقراطياََ وإحماءاََ ضرورياََ لفترة ما بعد الإنتقال.
إن أكثر ما سيعين رئيس الوزراء كامل إدريس وحكومته المرتقبة هو التعاطي المتزن والمتبصر من قبل أهل الإعلام سواء كانوا مؤيدين أو معارضين.
فالوضع الدقيق الذي تمر به البلاد يستوجب أن يكون الإعلام متزناََ ووسطاََ ما بين التطبيل، والنقد المغرض الهدام وهي حالة لا تتحقق إلا بانتهاج المهنية التي تقوم على استشعار المسؤلية والواجب الوطني بعيداََ عن خطاب الكراهية والإثارة وتأجيج الخلافات والتضليل ، قريباََ من تعزيز وحدة الصف الوطني ودعم التماسك والسلم الإجتماعي.