محمد عثمان النبوي يكتب: ..بهدوء وتدبر..سورة قريش قانون قاطع لتحقيق الرخاء والأمان

محمد عثمان النبوي يكتب: ..بهدوء وتدبر..سورة قريش قانون قاطع لتحقيق الرخاء والأمان
إشارات بليغة في سورة قريش، تكشف قانوناً اجتماعياً واقتصادياً متكاملاً: الوفرة و الأمان ثمرة انفتاح اقتصادي رشيد يحرس بعبادة الله الحقّة.
ولا ينبغي أن يُقرأ القرآن الكريم قراءة سطحية أو عابرة، بل الواجب أن يكون تدبّرنا فيه تدبراً واعياً شاملاً، كما أمر الله تعالى، ربطاً لمضامين القرآن بقضايا العصر للوصول إلى أقصى مراداته، في ضوء السياق الكلي للقرآن والسنة. فكل إشارة يأتي بها الله تعالى لها وزنها الدلالي العظيم . وإذا كانت إشارات العلماء تحظى بالتقدير، فكيف
بإشارات ربّ العالمين؟!
أشارت الآيات الكريمة في سورة قريش إلى القانونين الأساسيين لإصلاح شأن أي بلد وتحقيق عنصري الرخاء والأمان فيه وهما :
أولاً: الانفتاح والتحرير الاقتصادي في نموذج “رحلتي الشتاء والصيف” .
فقبل رحلتي الشتاء والصيف، كانت قريش تعيش جوعاً وخوفاً في مكة شديدة الجفاف، قليلة الموارد. لكن مع تنظيم رحلتين تجاريتين موسميتين إلى اليمن شتاءً، وإلى الشام صيفاً، انفتح لهم باب رزق واسع، وتحققت طفرة اقتصادية حقيقية:
صادرات وواردات من أسواق متقدمة.
حراك اقتصادي واسع وتداول نشط للبضائع.
خلق فرص عمل هائلة استوعبت العاطلين، بما فيهم قطّاع الطرق الجائعين.
ارتفاع التبادل النقدي والأسواق الداخلية.
وتطور ميزان مدفوعات مكة مما مكنها من أن تكون اليد العليا في التبادل التجاري .
زيادة وفود الناس والسياحة بأنواعها نحو مكة كمركز تبادل وحج.
تدفقات مالية عززت القوة الأمنية والعسكرية لقريش.
هيبة دولية ناتجة عن الاستقرار الاقتصادي.
توسّع في المعارف والتقنيات من خلال الاحتكاك بالحضارات.
انخفاض معدلات الجريمة نتيجة توفر العمل والموارد.
كل هذا مثّل انفتاحاً اقتصادياً حقيقياً شبيهاً بما نسميه اليوم بـ”التحرير الاقتصادي الكامل”، الذي يربط الداخل بالخارج ويُطلق قوى السوق، بشرط الانضباط بالقيم.
ثانياً: الوفرة والأمان نتيجتان مركزيتان
قال تعالى:
{ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۭ}
فقد تحقق الاطعام التام من جوع: رمزية لكل ضروريات الحياة من مأكل ومشرب ومعيشة.
الأمان الكامل من خوف: مادي ونفسي واجتماعي وسياسي، داخلي وخارجي.
هاتان هما النعمتان الجوهريتان اللتان يسعى إليهما كل مجتمع، ولا تُؤمنان إلا بفتح باب المبادلات، أي بتحرير حقيقي من الانغلاق والتسلط.
ثالثاً: الحماية عبر العبادة بمعناها الكامل
قال تعالى:
{فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ}
أي أن استمرار وديمومة الوفرة والأمان ثم الفوز برضوان الله في الدار الاخرة لا يتحقق إلا بـ”العبادة” التي تشمل:
الالتزام بالأوامر الشرعية والشعائرية والأخلاقية مثل الصدق، إتقان العمل، أداء الحقوق، محاربة الظلم.
الامتناع عن المحرمات: مثل البغي، الغش، الفساد، الربا، الرشوة.
إقامة العدل والإحسان: في كل الشؤون الخاصة والعامة.
وهنا تتجلّى القاعدة الاصولية الهامة:
“ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب”،أي أن كل وسيلة تؤدي إلى إعمال هذا الالتزام عبادةً وعدلاً تصبح واجبة شرعاً، ومن أبرزها اليوم الرقمنة الشاملة كوسيلة شرعية واجبة، و ليست خياراً إدارياً، بل هي وسيلة لضبط الأداء، وفريضة واجبة، لأنها تحقق ما لا يتم الواجب إلا به حيث أن هذا الضبط يتحقق به :
●تسريع قضاء حوائج الناس وإزالة الاستنزاف الزمني والمالي.
● تقليل الابتزاز والمحسوبية والفساد الخفي.
● تُحقيق شفافية مالية كاملة في الإيرادات والمشتريات.
● تُوفّير عدالة التوزيع الزكوي والضريبي.
● الربط بين الأداء والنتائج.
● التمكين من مراقبة الأجهزة العامة آنيًا وبدقة.
●تسهيل سريان القانون على الجميع.
والتحرر من القيود الاقتصادية لا معنى له إذا بقيت الأجهزة الإدارية بيروقراطية، والمعاملات المالية غامضة، ومراكز القوة خارج المحاسبة.
رابعا: الانضباط بالشرع يحفظ الازدهار ويمنع الانهيار . فحين تغيب العبادة والرقابة، تظهر الآفات الكبرى التي أضرّت حتى بأغنى الدول:
الخمر: 70% من جرائم العنف بأمريكا تحت تأثير الكحول، ناهيك عن الحوادث، الطلاق، الأمراض.
العلاقات المحرمة: تؤدي إلى دمار أسري، وأمراض، وضياع الأبناء.
القمار والميسر: يدمّر الأسر، ويفقر المجتمعات، ويفكك المنظومة الأخلاقية.
الربا: يعمّق الفقر، ويخلق طبقة متوحشة مسيطرة على مقدرات الشعوب.
إنها منظومة تهدم الأمان وتستهلك الوفرة، حتى في أغنى الدول.
خامسا: العبادة ضمان نفسي وروحي ومجتمعي
حين تُفهم العبادة في شمولها:
تشيع الطمأنينة الفردية والأسرية.
ينتشر التكافل الطوعي لا القسري.
تُضبط الجريمة من داخل الضمير لا فقط بقوة القانون.
تنخفض الأمراض النفسية والعضوية الناتجة عن القلق، الإدمان، الضغوط، وسوء العادات.
وبهذا، فإن الالتزام بعبادة الله هو الضمان الأكبر لتثبيت الوفرة، ولحماية الأمان وردع المعتدين من داخل المجتمع أو من خارجه.
سادسا: من قريش إلى عصرنا
سورة قريش رسمت خارطة ثنائية الأبعاد:
1. انفتاح اقتصادي رشيد: يعادل التحرير المطلق من كل القيود العقيمة.
2. التزام بالمنهج الإلهي: عبادة بمعناها الكامل المشتمل علي وسائل العصر الضابطة كالرقمنة التي لا تتحقق مقاصد الشرع الا بها ، فلم تعد ترفاً بل فريضة.
إذن ، فإن التحرير الاقتصادي الشامل قريناً بالعبادةالشاملة المتضمنة للرقمنة المتكاملة
تُخرجنا من الجوع والخوف الي الوفرة والأمان وتُقيم عدالة فعالة
وتُفعل التزكية المجتمعية وتردع الظلم و تُؤسس لحضارة راشدة مستدامة.
من أراد الوفرة والأمان، فالطريق واضح كما رسمه الله في سورة قصيرة، لكنها خريطة نهضة شاملة.
وما لم نربط بين التحرير والانفتاح الاقتصادي والعبادة ومن ضمن ذلك الرقمنة كوسيلة شرعية، سنظل ندور في فراغ، أما إذا جمعناها، فذلك هو النهج الذي يُرضي الله، ويُسعد العباد، ويُعلي السودان.
محمد عثمان الشيخ النبوي