رحمة عبدالمنعم يكتب:..وجه الحقيقة..فاشر السلطان..( أداب العاصي)

رحمة عبدالمنعم يكتب:..وجه الحقيقة..فاشر السلطان..( أداب العاصي)
ما يجري في مدينة الفاشر ليس مجرد معركة عابرة في سجل الحرب الممتدة في السودان، بل هو مشهد متكامل تختلط فيه ملامح المأساة بملامح البطولة، وتتجلى فيه إرادة شعب يأبى أن يسقط رغم هول المحنة.
منذ أن بدأ الهجوم الواسع الذي شنّته مليشيا الدعم السريع على المدينة، انكشفت النوايا وظهرت الحقائق بلا رتوش،لم تكن حربهم حرب مقاتلين ضد مقاتلين، بل كانت معركة حاقدة ضد المدنيين العزل، الذين وجدوا أنفسهم فجأة بين فكي كماشة القذائف والمدافع ،أكثر من 250 دانة أمطرت أحياء الفاشر السكنية يوم أمس الثلاثاء، لم تميز بين طفل نائم أو أم تحضن صغيرها أو شيخ ينتظر رحمة السماء، سقطت البيوت، وارتفعت الأرواح، وعمّ الفزع، لكن المدينة لم تنكسر.
لم تكن الجرائم التي ارتكبتها المليشيا مجرد حوادث عرضية يمكن تبريرها في زحمة القتال، لقد كان القصف العشوائي، المتعمد، المنهجي، ضد المدنيين رسالة واضحة بأن مشروعهم العسكري بات يائسًا، وأنهم،حين فشلوا في اقتحام أسوار المدينة، سعوا لكسر إرادة سكانها بنشر الرعب والموت بينهم.
لكن حسابات الميدان جاءت بما لا يشتهون،خلال 205 معركة خاضها الجيش والقوات المشتركة لحركات الكفاح المسلح على تراب الفاشر (اداب العاصي)، لم تتمكن المليشيا من تحقيق أي انتصار يُذكر. سقطت محاولاتهم واحدة تلو الأخرى، وتحوّل جنود الجيش والمشتركة إلى سدّ بشري صلب حطم كل موجات الهجوم المتلاحقة، وفي كل مرة كانت المليشيا تجرجر أذيال الهزيمة، كانت ترد بقصف عشوائي يزيد من خسائرها الأخلاقية.
ولم تكن الفاشر مجرد مدينة تقاوم، بل كانت رمزاً لصمود شعب كامل، يرفض أن تهزم روحه رغم الجراح، بين كل ركام بيت تهدم، ودمعة أم فقدت طفلها، كان هناك جندي ثابت في موقعه، أو مقاوم يشحذ عزيمته، أو مدني يتمسك بحقه في الحياة والكرامة، وحتى حين ضاقت بهم الأرض بما رحبت، ولم تعد المستشفيات قادرة على استيعاب الجرحى، ولا توفرت الكهرباء أو المياه أو حتى
الأكفان الكافية لدفن الشهداء، ظل نبض المدينة يقاوم الموت، بإيمان غريب لا تفسره قوانين الحرب.
ما جرى في الفاشر لا يمكن أن يُختزل في أرقام الشهداء أو حطام البيوت، ولا أن يُروى فقط باعتباره فصلاً من فصول الحرب السودانية. هو شهادة أخرى على أن
مشروع المليشيا، الذي بُني على القتل والسلب وانتهاك حرمات المدنيين، مشروع فاشل بطبيعته. بينما مشروع الجيش والقوى الوطنية، رغم كل المعاناة، يثبت يوما بعد يوم أن السودان لم يفقد روحه، ولن يسمح باغتيال مستقبله.
لذلك، فإن ملحمة الفاشر ليست سوى بداية ،ومن بين الركام، وسط رائحة البارود والدم، يولد فجر جديد، تحرسه دماء الشهداء، وتكتبه أيدي المقاومين الصامدين، الذين رفعوا رأس السودان عاليًا في زمن الانكسار.