إبراهيم شقلاوي يكتب : الشرق وأخواتها : جدلية الحياد والمهنية ؟.

إبراهيم شقلاوي يكتب : الشرق وأخواتها : جدلية الحياد والمهنية ؟.
أعاد قرار الحكومة السودانية بحظر نشاط قناة “الشرق” تسليط الضوء على العلاقة المعقدة بين حرية الصحافة ومسؤولية التغطية الإعلامية في الأزمات. مع تصاعد الأحداث في السودان، تحول الإعلام من
مجرد ناقل للمعلومة إلى طرف مؤثر في تشكيل الرأي العام وتوجيه مسارات الحرب . يثير هذا القرار تساؤلات حول أبعاده الحقيقية ، هل هو استجابة
لانحراف مهني في التغطية ، أم أنه جزء من جهود أوسع لإدارة الفضاء الإعلامي في ظل التحديات الراهنة ؟ كون قناة “الشرق” لعبت دورًا بارزًا في تغطية الأحداث منذ بداية الحرب في أبريل 2023،
فإن القرار يعكس التحدي الدائم بين حرية الصحافة ومتطلبات الأمن القومي . في هذا المقال نناقش جدلية الحياد والمهنية مع الأخذ في الاعتبار تجارب حظر قنوات إعلامية أخرى في فترات سابقة .
بدأت الأزمة مع “الشرق” عقب نقلها لمعلومات أسندتها لمصدر لم تُسَمِّه متعلقة بتعديل الوثيقة الدستورية الحاكمة للبلاد للعام 2025 والتي وصفها وزير الإعلام الناطق الرسمي باسم الحكومة خالد الأعيسر بأنها معلومات غير صحيحة . الحكومة السودانية ترى أن
بعض المؤسسات الإعلامية تتجاوز أدوارها التقليدية في نقل الأحداث إلى الانخراط في التأثير السياسي ، وهو ما قد يُشكل تهديدًا لسيادة الدولة . لذلك لم تكن قناة “الشرق” هي الوحيدة التي تعرضت للحظر، إذ سبق أن أوقفت السلطات عمل عدة قنوات دولية، من
بينها “الجزيرة” و”العربية” و”الحدث” و”سكاي نيوز عربية”. وقد بررت الحكومة السودانية قرارات الحظر هذه بعدم التزام القنوات بالمعايير المهنية والشفافية ، إلى جانب ما وصفته بتقديم تغطيات منحازة للأحداث الجارية في السودان .
وفي البيان الصادر عن وزارة الإعلام ، تم توجيه اتهامات مباشرة لبعض القنوات المحظورة ، أبرزها “سكاي نيوز عربية”، التي وُصِفَت بأنها “تحولت إلى بوق إعلامي لمليشيا إرهابية تمارس كافة أشكال
الجرائم في حق الشعب السوداني بحسب ‘أخبار السودان'”. وعلى الرغم من أن بعض القنوات مثل “العربية” و”الحدث” استأنفت عملها بعد فترة من الحظر ، إلا أن “سكاي نيوز عربية” لم يُذكر استئناف نشاطها حتى الآن .
تباينت ردود الفعل حول قرارات الحظر حيث رأى البعض أن هذه الإجراءات تمثل انتهاكًا لحرية الإعلام والتعبير ، بينما اعتبر آخرون أن القنوات المحظورة لم تكن محايدة في تغطيتها، وساهمت في تأجيج
الصراع عبر تبني أجندات معينة . من ناحية أخرى يرى مؤيدو القرار أنه يهدف إلى حماية الأمن القومي السوداني من محاولات التأثير الإعلامي الخارجي .
وهذه الجزئية ربما يتفق عليها معظم السودانيين الذين ظلوا متابعين للتغطية الإعلامية لهذه القنوات التي سمحت بصورة أو بأخرى للمتحدثين عن مليشيا الدعم السريع ببث دعاية سوداء اعتمدت على الكذب
والتضليل دون مواقف واضحة من القنوات بدعوى أنها تأتي بالضيف والضيف المقابل . وقد لاحظ الناس في الغالب عدم تساوي الفرص أو السماح بحديث كاذب دون شواهد كان بالإمكان التأكد من صدقيته عبر مراسلي هذه القنوات من مكان الحدث ، هذا
بالإضافة إلى تبني وجهة نظر المليشيا وداعميها أحيانًا بجانب أخبار كثيرة ذات تأثير مباشر في مجريات الأحداث لا تسند لمصادر معروفة حيث انعكس ذلك على مصداقية هذه القنوات وربما خلق جفوة وعدم ثقة بينها وبين الجمهور .
في سياق المقارنة شهدت دول أخرى خلال فترات الأزمات والحروب إجراءات مماثلة تجاه وسائل الإعلام ، مثلما حدث في الولايات المتحدة خلال ما عرف بالحرب على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر
2001 ، فرضت الحكومة الأمريكية قيودًا على بعض القنوات الإعلامية ، مثل قناة “الجزيرة”، التي وُجهت لها اتهامات بنقل رسائل الجماعات المسلحة ، ما دفع واشنطن إلى تقييد تغطيتها داخل الأراضي الأمريكية .
كذلك فعلت فرنسا وبعض الدول الأوروبية مع قنوات “روسيا اليوم” و”سبوتنيك” عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 2022 ، بدعوى نشرها “بروباغندا” تهدد الأمن الأوروبي. أيضًا في جوارنا
العربي ، قامت الحكومة المصرية بإغلاق مكاتب قنوات أجنبية في فترات الاضطرابات السياسية في مصر ، خلال ثورة 2011، متهمة إياها بالتحريض أو التلاعب بالمعلومات .
تُظهر هذه النماذج أن القرارات المتعلقة بحظر وسائل الإعلام ليست جديدة أو مقتصرة على السودان ، بل هي جزء من معادلة معقدة تحاول الدول من خلالها الموازنة بين الحفاظ على الأمن القومي وضمان تدفق المعلومات بحرية .
ومع ذلك فإن التحدي الأساسي يكمن في مدى موضوعية هذه الإجراءات ، ومدى التزام القنوات الإعلامية نفسها بالمعايير المهنية في تغطية الأحداث دون انحياز . لذلك ولأهمية الاستفادة من القنوات الإعلامية وحتى تتمكن من القيام بدورها في نقل
الأحداث بحيادية ومهنية يجب عليها الالتزام بالمعايير التي بموجبها منحت تصاريح العمل من خلال التفاوض مع الأجهزة المعنية وإيجاد صيغة لتعزيز التعاون معها وإعادة ضبط سياساتها التحريرية للحصول على تراخيص جديدة .
كذلك على القائمين على أمر الإعلام في البلاد إجازة سياسات واضحة ومحفزة للإعلام والإعلاميين على اعتبار أن جودة الرسالة الإعلامية أساسها التعاون بين الأطراف لفائدة الجمهور . بجانب أهمية تعزيز الإعلام
البديل ورفع كفاءته ، فمن المتوقع أن تشهد منصات الإعلام الرقمي والمستقل ازدهارًا أكبر ، مما يغير من طبيعة المشهد الإعلامي السوداني .
يبقى السؤال الأهم : كيف يمكن تحقيق التوازن بين حرية الإعلام وحماية الأمن القومي في السودان؟ الإعلام يبقى عنصرًا أساسيًا في تعزيز الاستقرار والسلام ، ولكن هل يمكن ضمان تغطيته الواقعية دون قيود؟ على الحكومة إيجاد صيغة توازن تضمن حرية
الصحافة وتمنع تقييد حق الجمهور في المعرفة . التحدي يكمن في ضمان حرية الإعلام من جهة ، وحماية الأمن القومي من جهة أخرى ، مع التزام المؤسسات الإعلامية بالمعايير المهنية لضمان تغطية موضوعية ومتوازنة للواقع السوداني .
دمتم بخير وعافية .
Shglawi55@gmail.com