منى أبوزيد تكتب:..هناك فرق.. الهوية وبناء الدولة ..!
منى أبوزيد تكتب:..هناك فرق.. الهوية وبناء الدولة ..!
“لن تُبْصرْنا بمآقٍ غير مآقينا .. لن تَعْرِفْنا ما لم نجذبك فَتَعْرِفَنا وتكاشفنَا .. أدنى ما فينا قد يعلُونا يا ياقوتْ .. فكن الأدنى تكن الأعلى فينا” .. الفيتوري ..!*
أشهر صورة إعلامية أيقنت مأساة الغزو العراقي للكويت كانت مشهد الفتاة الكويتية الباكية التي انهمرت دموعها وهي تحدث العالم عن معاملة الجنود العراقيين للأطفال المرضى في الكويت..!
يقال – والعهدة على القائلين – أن تلك اللقطة الدامعة كانت سبباً رئيساً في صدور أقوى قرارات مجلس الأمن ضد العراق، بعد أن حصدت تعاطف الإعلام العالمي مع محنة الكويت، وبعد أن نجحت الدموع جداً في ما فشلت بتحقيقه أقوى الخطب السياسية ..!
أما أشهر صورة إعلامية عبرت عن مأساة الخذلان التي يعيشها الشعب السوداني من اندلاع هذه الحرب – التي تآمرت علينا في شأنها بعض الحكومات الجارة والشقيقة – فكانت تلك اللحظة التي لم يتمالك فيها السفير نور الدائم
عبد القادر دموعه وهو يحل ضيفاً على قناة الجزيرة مباشر قبل أيام، واصفاً موقف بعض الدول العربية والإفريقية تجاه مأساة هذه الحرب بالخذلان الذي لا يستحقه السودان الذي ظل يقف مع هؤلاء ويساند أولئك..!
حديث السفير نورالدائم عن الخذلان العربي الإفريقي للسودان في محنته هذه ذكرني مقالات عديدة كتبتها عن معاناة السودان مع أزمة الهوية والأثمان التي ظل يدفعها جراء إصرار عقله الجمعي على التمسك بعروبته الثقافية على حساب إفريقيته، والنتيجة غربة إقليمية مركبة، ووقوف دائم على تخوم البرزخ بين عالمين..!
عندما أتت صحيفة أردنية على ذكر عادة “البطان” في الأعراس السودانية أعربت عن دهشتها من غرابة المشهد وكأنها تتحدث عن غرابة طقوس الزواج عند قبائل “الرورو” أو مراسم التعامل مع جثث الموتى في غينيا، وليس كأن هذا السودان – أو بعضه – جزء مفترض من وطنها العربي الكبير ..!
وبينما نعرف نحن “خُدام الفكي” – المجبوبورن على صلاتهم – شعراء العرب ومطربيهم، لا يعرف مواطن تلك الصحيفة أن شاعراً كبيراً اسمه عمر الطيب الدوش له قصيدة رائعة في “ركزة العاشق” وهو يجلد على إيقاع الدلوكة، وأن مطرباً عظيماً اسمه الكابلي قد تغنى بها..!
شئنا أم أبينا، هذا هو بالضبط مطب الهوية ومأزق أبي دلامة التاريخي الذي يأبى أصحابه الأعراب إلا أن يؤكدوا في كل سانحة على أنه ليس أكثر من نديم مجلس، أبعد نسباً وأقل حسباً. الأمر الذي يعيدنا – من جديد – إلى إسقاط مقولة المتنبي الشهيرة عن مقاييس الجمال ..!
المتنبي يقول في شأن الجمال الشكلاني للإنسان “حسن الحضارة مجلوب بتطرية .. وفي البداوة حسن غير مجلوب”. بينما الحسن في عرف الدول هو عامل الجذب العرقي والثقافي، أما التطرية الحضارية – بحسب ذات العرف – فهي الملاحة السياسية، والحذلقة الشعبية، والشطارة البروتوكولية ..!
ماذا يفعل إذن شقي الحال أبو دلامة الذي أقسم على نفسه أن يقدم تفردة بوسامته “الهجين” قرباناً لآلهة العروبة، ناسياً قماشته الإثنية، متناسياً تفرده الجغرافي، متجاهلاً خصوصيته الإقليمية ومزاياه الشعبية المدفونة تحت أنقاض التمثيل السياسي الأخرق ..!
يغني العرب فيطرب أبو دلامة لألحانهم، يرقص الأفارقة فيشاركهم رقصاتهم. يعرف الكثير عن هذا ويحفظ الكثير عن ذاك، بينما لا يكاد يعرفه أحد. فالآخر نفسه في حيرة من أمره بشأن هويته المائعة، وأبو دلامة لا يتجشم عناء الحسم والتنوير. كيف يفعل ومعظم أبنائه يظنون واقعة انفصال جنوبه عن شماله هي الحدث الحاسم في معركة الهوية ..!
بين صدق هؤلاء أو كذب أولئك تبقى حقيقة واحدة لا مراء فيها “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. ما لم يتغير المنطلق الذي يحكم علاقتنا بأنفسنا لا ينبغي لنا أن نتفاءل بحدود الإطار الذي يحكم علاقتنا بالآخر. ذهب الجنوب، تقلصت المساحة، انطلقت دعوات التعريب والأسلمة، تفاقمت حملات الفرز والتصنيف والإقصاء. ثم إندلعت حرب أهلية برعاية خارجية، تتقوى بالحملات العنصرية وتتغذى على معضلة الهوية العائمة ..!
إن لم تغيرنا هذه الحرب سوف ييقى الجيش والمليشيا عند معظم هؤلاء وأولئك وجهان لقضية داخلية قوامها صراع على السلطة. وسوف تبقى عادة “البطان” عند قبيلة الجعليين، أو رقصة “البالمبو” عند قبيلة الزاندي – في أذهان إخواننا الذين سبقونا في الخذلان – وجهان غائمان لغربة السودان الواحدة!.
munaabuzaid2@gmail.com
المصدر : صحيفة الكرامة