مقالات

يوسف عبد المنان يكتب: ..خارج النص..الموت المعلن

يوسف عبد المنان يكتب: ..خارج النص..الموت المعلن

 

بعض عناوين مقالاتنا نستعيرها من إرث كُتّاب رحلوا وتركوا من بعدهم أثرًا في الحياة، ومن جبرائيل غارسيا ماركيز نستعير هذا العنوان من روايته الشهيرة «قصة موت معلن».

ويوم أمس السبت كان يومًا عبوسًا قمطريرًا؛ إذ نعى الناعي من قلب كردفان، التي ترزح تحت أغلال المليشيا، ومن مدينة النهود – العاصمة الثانية للإقليم – رحيل الأمير عبدالقادر منعم منصور الذي ودّع الدنيا، وأغمض جفنه، ورقد إلى جوار سيفه، وعلى يمينه ناس دار حَمَر، وعلى شماله القتلة الجنجويد.

لم يمت عبدالقادر بالملاريا، ولا بطعنة في كبده، ولكنه مات شهيدًا – بإذن الله تعالى – بعد أن قتلته المليشيا معنويًا قبل أن تقتله جسديًا.
مات الأمير في دارٍ يجوس فيها الأشرار من عربان الشتات، وأهلها ما بين نازحين في المدن، ولاجئين في المنافي، ومقهورين بقوة السلاح.

قرر الأمير، منذ أن دخل الجنجويد النهود، أن يكون موقفه كما عهدناه: صلابة وشموخًا. وفي يومٍ مثل يوم أمس، تسلّل الحزن إلى قلوبنا من دار الريح، بما حدث في بارا ودار حَمَر، بينما كانت روح الأمير تتصاعد شهيدة، بعد أن فرضت عليه المليشيا السجن والأسر بين جدران بيته الذي كان عامرًا بالناس من كل فجٍّ عميق.

تبدّل الحال، وتدنّت القيم، حتى تجرأ على حيطان بيته من لا يعرف خُلقًا ولا أصلًا، ومن لم ينبت في بيت أسرة، ولا يملك من الرجولة والأخلاق سوى اسمها.

بدأ مقتل الأمير عبدالقادر بمنعه من العلاج. كان الرجل الثمانيني يعاني من مرض القلب، يمشي الهوينى، وقد أبلغه قائد المليشيا برغبة الجنجويد في نقله إلى نيالا لتلقي العلاج هناك، لكنه رفض مغادرة النهود إلى نيالا؛ رفضًا نابعًا من كبرياءٍ، وعزّة نفس، واكتمال مروءةٍ، وشجاعةٍ نادرة.

كيف له أن يقبل أن يكون ضيفًا مهانًا في مدينةٍ سُلبت إرادتها، وجرّدها الاحتلال من كبريائها، وهو الذي يعرف أن من يحتل الديار ويغتصب الحرائر وينهب الحُليّ لا يُستجار به؟

رفض الأمير الإغراء والإغواء، وقال في رسالته إلى عبد الرحيم دقلو:

> “إمّا أن أبقى في النهود، أو تطلق على رأسي رصاصة الموت.”

 

فبعث إليه دقلو قبل أسبوع طائرةً مسيّرة صرفها الله عنه، وسقطت بالقرب من بيت الإمارة، على طريقة المسيّرة التي أزهقت روح ناظر المجانين في المزروب.

حُرم عبدالقادر من دواء القلب والسيولة، وغادر الأطباء المهرة النهود، ولم يبقَ سوى ممرضين منسوبين للمليشيا. سعى والي غرب كردفان اللواء جايد لإنقاذ روح الأمير الشهيد، وجرت مفاوضات مع أبناء حَمَر المنتمين للدعم السريع لنقله إلى الأبيض بعد تدهور حالته الصحية، ورغم موافقتهم، فإن أسيادهم من الماهرية رفضوا ذلك.

في الأيام الأخيرة، حُرم الأمير من الدواء ومن بعض الغذاء المناسب لمرضه، وتعرض لتهديداتٍ متكررةٍ بالقتل. لكنه – كعادته – كان صامدًا، شجاعًا، رافضًا للهوان، وهو الذي فشل حميدتي في شرائه حين كان يشتري زعماء القبائل، والأطباء، وقادة الأحزاب، والمهندسين، والصحافيين، والضباط، مستفيدًا من خبرته التفاوضية كتاجر حميرٍ سابق.

مات الشهيد عبدالقادر منعم منصور، وسقطت بارا حتى مساء أمس، لتعود اليوم أو غدًا.
وإن غاب عبدالقادر منعم منصور، فقد أمسك براية دار حَمَر منعم عبدالقادر منعم منصور، لتستمر المسيرة، وتتحرر الأرض قريبًا – بإذن الله.

> إنا لله وإنا إليه راجعون.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى