يوسف عبدالمنان يكتب:.. حديث السبت..سقوط النهود واستعادتها: نبأ مفزع وآخر منتظر

يوسف عبدالمنان يكتب:.. حديث السبت..سقوط النهود واستعادتها: نبأ مفزع وآخر منتظر
تظل حقائق الأرض دافعًا للانتصار في حرب طويلة
تجربة درع السودان كتاب نتعلم منه تحرير كردفان
كانت الساعات الأولى من صباح الجمعة مفزعة حد الإحباط والأسى. إخوة لنا في ميدان المعركة بين جريح ومفقود وقابض على سلاحه ينتظر المدد، وآخرون يتبادلون الاتصالات: خالد بخيت، عبد الله بلال، نصر الدين حميدتي، ومن أيرلندا موسى أحمد عمر، ومن السعودية الناظر أسامة الفكي، ومن المجلد والهند
الأحباب والإخوان وأبناء الدار وخارجها يتناقلون الأنباء المفزعة. وفي الثالثة صباحًا، لم يصل متحرك “الصياد” من الأبيض، وكان قرار قيادة اللواء الثامن عشر الانسحاب إلى الخوي، وكأنهم يسيرون على خطى الفرقة الأولى ودمدني حينما انسحبت الفرقة وحكومة الجزيرة إلى المناقل، ومن هناك بزغت بذرة الخلاص من التمرد في الجزيرة وصمود أهلها.
مع خيوط فجر الجمعة، بدا المشهد شبيهًا في كل شيء بليلة وصباح سقوط بغداد تحت أقدام قوات الاحتلال الأمريكية. في ذلك اليوم، هبّت عاصفة ترابية من صحراء شمال وغرب إيران وجنوب تركيا، ورسمت في بغداد صورة قاتمة لفجر كئيب على نفوس كل الأحرار، لا حزنًا على ذهاب سلطة حزب البعث الذي وقف معه السودان، ولكن لأن مكافأة الحزب لمن وقف معه كانت بعضد الأيادي التي حملته في وهنه بأسنان لا تعرف السواك.
أشرقت شمس الأمس والبلاد غشّاها الغبار العالق وظللها رماد خسارة مدينة ما كان لها أن تسقط لو ساد في كردفان أهل البصائر. سقطت النهود، وكان سقوطها موجعًا لكل حر في هذه البلاد، ولكل من أحب تراب الأرض ودار حمر وأهل الدار وصُرة السودان وقلبه. الحرب تقدم وتقهقر، نصر وخسارة، موت وجراح وإعاقة. ومن لم تفجعه فقدان أمه، لن يبكي لفراق محبوبته.
لن نجزع ولن نخاف، حتى لو سقطت كل مدن السودان، لأن النصر من عند الله. تظل القوات المسلحة، والقوات المشتركة، وقوات الأمن والشرطة، والمجاهدين المخلصين، يحظون بسندنا المعنوي، ونهبّ لنجدتهم، لا نشجعهم ساعة النصر فحسب، بل نسندهم لحظات الشدة، ونكتب عنهم في يوم الكريهة. ولكن تظل الجروح في القلوب دامية لفقدان النهود، والحزن عميق، والأسى يحفر في القلب أخدودًا من الجراح العميقة.
لأن ميليشيا ماجوج ما دخلت مدينة إلا واغتصبت حرائرها، وانتهكت شرفها، ونهبت ممتلكات مواطنيها، وتخيرت خيرة المجتمع وأشبعتهم موتًا وسحلًا، وأهانتهم أينما وجدوا، واحتقرت الرجال. فكيف لا نبكي النهود؟ المدينة التي تمثل السودان، ودار حمر التي تتلاقح فيها الأنساب والأعراق، ويعيش الناس فيها بالحب، وتقاسم لقمة العصيدة، وشرب لبن الضأن، ورقص “التوية” والطمبور والجراري والحسيس.
النهود قال عنها محمد أحمد محجوب ما لم يقله محمد أحمد الطاهر أبوكلابيش عن الخوي:
“البيت الجميل أوصافو
الساكننو ما بتشافو
لو ما العمر وربنا البنخافو
نعبد بالسبح الديسو غطى أكتافو”
هل، في يوم الفجيعة والغُمّة، نسأل: أين أبوكلابيش؟ وكيف حال سالم الصافي حجير؟ وأين بشير آدم رحمة؟ وأين لفظت الحرب بخاري بسبار وشريف عباد؟ وما مصير الناظر عبد القادر منعم منصور، الذي دخل الأوباش دار حمر وطالبوه وهو أسير بأن يسجل بيانًا يدين فيه الجيش ويطالبه بالخروج من النهود، فقال قولته التي أرعبت الأعداء: “اطلق رصاصة على رأسي، أكرم لي مما تطلب.”
ولن نسأل عن الوالي الذي كان ضيفًا ثقيلًا على المنصب، ورجلًا خفيفًا على أهل الدار، مثل الكسرة بالماء والملح: لا تغلط عليك، ولا توسخ يديك.
2
سقوط النهود هو الحقيقة التي يجب التعاطي معها. لن نسأل عن المال المنهوب، ولا عدد العربات التي نهبت الأرض سباقًا من الضعين وغرب دارفور وكل دمر الرحل ومن المجلد والفولة والدبيبات وأبوزبد، لاغتنام المال الحرام والكسب غير المشروع.
لن نسأل عن مصير الرجال الذين لم يجدوا إسعافًا لجراحهم. لن نسأل من أعدّ قائمة المعتقلين ورسم خارطة بيوت التجار ومارس مهنة (القوادة) المهنة الرائجة الآن في السودان، والأكثر وضاعة، لكنها باب قذر للمال الحرام.
لكننا نسأل عن القيم التي أهدرت، والمستقبل القادم، وكيف يسترد الرجال الأسود البلاد، والنهود عاصمة لشعب، لا حارة أو زقاق.
يسألنا الناس والدم يراق في أرض حمر: هل تعود النهود قريبًا كما عادت مدني والكاملين وتحررت بحري والحصاحيصا؟
الإجابة: نعم بالطبع. ومثلي لا يملك تأهيلًا ليفتي في شأن عسكري، أفنى فيه البعض عمره قتالًا، ودرس في المعاهد العسكرية، ونال أرفع الشهادات والأوسمة، وخاض غمار المعارك في مشارق الأرض ومغاربها.
لكن، من تجربة سنوات في جنوب السودان، وجبال النوبة، ودارفور، أقول: نعم، قد تعود النهود اليوم أو غدًا.
عودة النهود هي الفريضة التي في عنق قادتها من رجال القوات المسلحة، وفرسان المشتركة، ومجاهدي البراءون، وخبرات السنين في جعبة رجال كردفان أولًا، ثم السودان ثانيًا.
حينما سقطت الجزيرة، نهضت حركة تحرير الجزيرة، وغشيت القائد أبو عاقلة كيكيل صحوة ضمير، وانتصر الخير في نفسه على الشر والعدوان، وانقلب على الميليشيا. وقدمت قوات درع السودان من أبناء البطانة والجزيرة تضحيات لم تجد حظها من التوثيق، لكنها محفوظة في صدور شباب الدراعة الذين قاتلوا بشراسة غير معهودة.
تم تحرير الجزيرة بالدم والدموع، ودفع درع السودان الثمن: شهداء دفنت أجسادهم في تراب الجزيرة، وبقيت أرواحهم تهب الآخرين عزم الرجال.
ومن تلك التجربة يجب أن يتعلم الرجال الأشداء: فرسان دار حمر، وأشاوس المسيرية، وأبطال دار حامد، ورجال الحوازمة، وأسود جبال النوبة، ونمور البديرية، ومرافعين كيقا وأم روابة والمزروب… كيف تُحرر الأرض وتُسترد الحقوق.
وربما يجعل الله سره في ماكن الصادق، أو التاج التجاني، أو الفاتح قرشي، وتغشى أحدهم صحوة ضمير، وينقلب على الدعم السريع، ويبدأ الفتح من حيث ثغرة الهزيمة الموجعة التي أكلت أكبادنا، ونحن نمشي على الأرض كالسُكارى وما نحن بسكارى، ولكن وقع سقوط النهود موجع جدًا.
مثلما هو موجع لضباط القوات المسلحة من فرسان كردفان: حسن درمود، حسين جيش، عبد الله كافي، أبو القاسم صلوحة، العميد حسن البلاع… وأكثر وجعًا على فرسان أقعدهم الزمان عن القتال.
في ليلة ظلماء نتذكر: حسين جيش، أحمد حجر، جنجا، القبول الفاضل، هجام الليل، حسن كربة صالح، سليمان صالح… الذين وآخرين سجلوا أسماءهم في سجلات التاريخ.
لكن الحاضر الآن يدعوهم لخوض الحرب الوجودية التي فرضت علينا من الإمارات وما وراء الإمارات، وهي حرب مفتوحة لكل الاحتمالات، وقد انتقلت الآن لكردفان، التي اجتاحها التتار الجدد ينهبون ويسرقون ويغتصبون الأخوات والبنات. فماذا تنتظرون؟
3
منذ أن تجمعت قوات الميليشيا في الصحراء الأسبوع الماضي، واستعرضت قوتها، وبثت رسائلها المعلنة بزعم استهداف مدينة الدبة أو الولاية الشمالية، كانت تلك الرسالة مفتوحة في بريد القيادة السياسية والعسكرية.
التمرد يبحث عن نصر معنوي، وبعد أن استعصى عليه الفاشر واستيأس منها، توجهت القوة، التي قوامها أكثر من 300 عربة مسلحة، نحو مدينة النهود التي ظلت محاصرة منذ عامين، تتلقى الذخائر بالإسقاط لا بالإمداد البري، وظل متحرك “الصياد” في أطراف الأبيض يتعرض لمناوشات لإعاقة تقدمه.
كان واضحًا لكل صاحب بصيرة أن الميليشيا تسعى لإسقاط النهود بأي ثمن، ودفعوا بكل قواتهم في الصحراء وكردفان وشمال دارفور لكسر ظهر هذه المدينة، وإعاقة الصياد والقوات المشتركة من التقدم لدارفور.
وقد حدث ما حدث أمس. والآن أمامنا جميعًا تحرير أرضنا، وتشتيت القوى المتواجدة الآن في النهود، من خلال استهداف الصياد لمناطق مثل: أبوزبد، الفولة، الدبيبات، الحمادي، وتحريرها اليوم قبل الغد، والتوغل نحو الفولة عاصمة ولاية غرب كردفان، التي يجب أن تعود سريعًا، لتُشفي جراح بعض ما خلفه سقوط النهود.