هنو الزبير تُصبح على جنة
ضل الحراز
على منصور حسب الله
إلي روح الشهيد الباسل هنو أبوبكر الزبير وقد غفا إغفاءته الأخيرة قبل أن نقول له تُصبح على جنة…
فى المرات السابقة كان الجنود يعودون إلى ديارهم بعد تسريحهم، وكانوا يذوبون فى موجة السعادة والفخر أما هذه المرة فقد عادوا وقد إستبد بهم الحزن فهل صدق غابرييل غارسيا ماركيز حينما قال
(لم تكن الوطنية سوى إختراع إخترعته الحكومة لكي يحارب الجنود ويموتوا مجاناً) أم كان نابليون بونابرت أكثر صدقاً وهو يقول (الجنود وصغار الضباط ينتصرون في المعارك والقادة يقطفون الثمار) إلا أخبروني لماذا بقى الجنرال في الردوم منتظراً نصر هرب منه أما أنتم أيها الهمجيون من مُتحزِّمين بالديناميت وسائقي سيارات مُفخَّخة وحملة سواطير وخناجر وتجار الحشيش وزراعه كفوا من دوي الإنفجارات ووقفوا أزيز الرصاص فقد رحل من كنتم تخافونه وهو لا يُطيق الضجيج فدعوه ينام رجاءاً فليهنأ تجار المخدرات وزراع السم الهاري قد رحل الفارس الذي حرمهم النوم ودوخ كبارهم.
هنو الزبير سامحني إذا كتبت بحبر لأني فقدت الدموع في الماقي ففي أسواق نيالا وجد شقيقك فضل الله وأصدقائه جميع مستلزمات مجلس العزاء قماش أسود.. آيات قرآنية للجدران، قهوة عربية دلال وفناجين، بخور وماء الورد لكن بإستثناء شيء واحد كأس من الدموع ولو بالإيجار أعيد به الرطوبة إلى طين عيني وعينا صديقك فضل الله منصور الموشكة على الجفاف!
فلماذا غطوا هنو الزبير بكل هذه الأغطية من التراب؟ ربما كي لا يسمع نحيب صديقه وشقيقي الأصغر فضل الله وهو يصرخ في برارينا مثل طفل خطفوا دميته هل أتحدث عن الحياة قائلاً بأنها تحتاج إلى الفن حتى يُتقن الإنسان عيشها فقليلًا يحتاج إلى الشجاعة وقليلًا يحتاج إلى الحذر وبين ذلك وذاك يبقى هو ناسج لشخصيته بالخيط الذي يروق له، فإن يعيش الإنسان يومًا واحدًا أسدًا شجاعًا قويًا ضاربًا خير له من أن يعيش مئة يوم كالنعامة التي لا تفقه من الأيام سوى النوم فقد رحل ذلك الأسد الذي دوخ تجار المخدرات وأقلق مضاجعهم.
هنو الزبير لن أحدثك عن دموع صديقك فضل منصور هناك مع الهزيع الأخير يلفّ النعاس لحافَه لتصحو وسادة الكلمات على حلمه الموجوع وهناك يتكوّر الصمت على سرير الإنتظار ويتدثّر الترابُ ثغور أشجار الغابات الإستوائية عزاءً لمواسم الدموع هناك غفا صديق شقيقي الملازم هنو أبوبكر الزبير شاهد على قبر من رخام الكلمات قبل أن نقول له (تصبح على جنة) فناجين قهوته ماء ورده بخور صباحاته وشغفه المرصود على قيامات جديدة يغافل سلالم الموت السافرة يرصف حجارة ملكوتٍ تائه يسأل عن وطن باتت ضلوع أبنائه عرباتٍ للنعوش بسبب الخونة الذي باعوا الضمير والوطن ليبتاعوا حياة بائسة هناك على الضفة الأخرى يعزّ العبور تفرغ الكؤوس تهجع الأرصفة خلف دوي المدافع هناك طبول الموت تؤرخ لهجرة العصافير وعيون الفقراء ترسم مسافات الهاربين من جحيم الخونة والمتآمرون يسطرون الخيانات ويحولون ضفائر الليل اثواباً للأرامل وأغطية لرؤوس الثكالي يستمطرون ندى الأسحار علقماً للأيتام وكان يقف قابلتهم الشهيد هنو أبو بكر الزبير ومنديلُه ساريةٌ تلوّح لوادي برلي تلتقط للهواء العابر صورة تذكارية قبل ان يحوّله الخونة وقوداً لأحزانٍ عتيدة ويسألونه عن كفنٍ آخر عن تابوت مفتوح يتسع للأمس واليوم والآتي يسرقون بياض نهاره وغفوة جفونه وإستراحة الشرود من أهدابه.
هنو أبوبكر الزبير ليس ساعي بريد الآخرة حيث الموتى يسكنون، إنه قميص الكوثر الوضّاء يدخل الفردوس بجناح مفتون يطيّب جراح الأمهات ينسج أغطية الشتاءات ويرسم عناوين جديدة وأسماء جديدة لأجنةٍ ستولد وتموت أرقاما في مفكّرات هؤلاء الخونة مَن يغرس للسودان سنبلة من يحصد له بيدراً مَن ينثُر حبوب القمح على ضفاف وادي بلبل ؟ مَن يسافر مع الأمهات إلى جنة المستقبل مَن يحمل أباريق الشاي مَن يسكب عطر السماء في أروقة المؤمنين مَن يفترش سجّادة الصلاة مَن يسأل الله أن يملأ الصحون خبزاً والأجساد عافيةً والأرواح حبوراً؟
يصبر هنو أبوبكر الزبير يصلّي يفرح ويكتئب لكنه لا يهادن الخونة ولم يتصالح مع تجار السم ينازل العمر لحظة بلحظة ويرفل كالقلب نبضةً نبضة لتبقى ذاكرته مرآة وفائه وليظلّ وجه زوجته قنديل المسرّة يذيب جليد الوحشة وينقش الورد أطباق حنطة على موائد الصباحات محارب مقاتل من إعتقلوا الوطن يلهب القصيدة بنار الأكواخ وقحط الحقول محارب يفترش الأسفار سطوراً ويسنّ أجنحة أشجار صندل الردوم أقلاماً ومحاربٌ من دخان يلف قوس القزح يغربل الألوان سماداً لعشاق الجحيم لكن هنو يهاجر الى الجنة الى الجذور ورائحة التراب الموسوم بعرق الجباه يسافر الى حيث للقيم وجه واحد وللحق لون واحد وللحب قلب واحد والى حيث للإنسان وطن واحد وللخيانة لا مكان مسافر الى حيث الرصاصة لا تعشق الأجساد الطرية وحيث لا يوجد مناضلون للإيجار بل مرابع تجدل عقود الياسمين على بيارق الأحرار يرسم بالدماء ترنيمة تائهة يجبل بالدموع ملحمة مخضبّة بأبجدية الغرباء يزنّر بابل بأقاحٍ يرشف بكاء المطر لن يصير هنو الزبير خريفاً حتى لا تنتحر ورود بلاده بل سيبقى حارس البوابات البيضاء يجمع الأقباس المتناسلة شموعاً لعتمة سودانه ويحطب أكمام الغمام رحيقاً لأسحار بلاده.
هنو دع الراية في يديك ترسم خريطة الأعراس في بلاد السودان فغداً سنراقص الشموس حتى آخر ومضة وسنكتب الشعر حتى آخر قافية وسنهزم الخونة حتى آخر خائن.