هل يقودنا الذكاء الاصطناعي إلى الجنون؟
من الصعب أن تقرأ مقالا أو تشاهد مقطع فيديو أو تستمع إلى “بودكاست” هذه الأيام من غير أن يخبرنا “المتشائمون” أننا نلعب لعبة خطرة مع الذكاء الاصطناعي الذي سيتفوّق علينا، ويسيطر على مستقبلنا، وأن الروبوتات ستحكم العالم عاجلا أو آجلا.
ويتداول كثير من هؤلاء قصصا عن أن روبوتات المحادثة -على سبيل المثال- أصبحت تهدد الحياة الزوجية والعائلية، وتعمل على تقويض الزيجات المستقرة، وتهدد بنشر الفوضى في العالم. وعندما يرى الناس الآلات والروبوتات وهي تستولي على أعمالهم ووظائفهم، وتحل مكانهم في العمل، يزداد رعبهم ويطلقون النكات السوداء عن المستقبل الذي سنصبح فيه عبيدا للآلات.
وعزز هذا التوجّه كثير من كتب الخيال العلمي والأفلام السينمائية؛ من فيلم “2001 سبيس أوديسا” (2001: A Space Odyssey) المنتج عام 1968، إلى فيلم “أفينجرز” (Avengers: Age of Ultron) المنتج عام 2015، إذ توقّعت هذه الأفلام أن الذكاء الاصطناعي سيتحرر من سيطرة مبدعيه من البشر، ويتفوق عليهم، ويعمل على استعبادهم أو القضاء عليهم.
واحتل الصراع بين البشر والذكاء الاصطناعي مركز الصدارة في مسلسل الخيال العلمي الشهير “البشر” (The Humans) المنتج عام 2021، الذي قدم رؤية مرعبة للمستقبل، حيث تواجه الآلات أشخاصا معادين يعاملونها بالريبة والشك والعدائية، وصولا إلى العنف. فنجد “سينث”، وهي “إنسان آلي” تقاتل ليس فقط من أجل الحقوق الأساسية بل من أجل بقائها أيضا، ضد أولئك الذين يعدّونها أقل من البشر وتشكل تهديدا خطيرا عليهم، وفق ما ذكره تقرير لمنصة “لايف ساينس” (livescience).
اختراق البشر
وبعيدا عن المسلسلات والأفلام، وفي العالم الحقيقي؛ حذرت شخصيات بارزة في مجال العلوم والتكنولوجيا والفلسفة من الأخطار التي قد يشكلها الذكاء الاصطناعي على البشرية، حتى أنها ذهبت إلى أن قدرات الذكاء الاصطناعي يمكن أن تقضي على الجنس البشري.
الكاتب والمفكر يوفال نوح هراري، صاحب كتاب “العاقل“؛ وهو أحد الكتب الأكثر مبيعا وإثارة للجدل منذ صدوره عام 2013، يؤكد أن البشر ليسوا في “أزمة تكنولوجية فقط، بل نحن في أزمة فلسفية”. ويشرح “أعتقد أن ما يحدث الآن هو أن الإطار الفلسفي للعالم الحديث الذي تأسس في القرنين 17 و18، حول أفكار مثل القدرة البشرية والإرادة الفردية، يتعرض للتحدي كما لم يحدث من قبل؛ ليس بالأفكار الفلسفية، ولكن بالتقنيات العملية”.
ويضيف “كل يوم نرى مزيدا من الأسئلة الأساسية لقسم الفلسفة، يتم نقلها حاليا إلى قسم الهندسة (البرمجيات). وهذا مخيف جزئيا لأنه على عكس الفلاسفة الذين يتّسمون بالصبر الشديد، ويمكنهم مناقشة شيء ما لآلاف السنين من دون التوصل إلى أي اتفاق، وهم على ما يرام مع ذلك، لكن مهندسي الذكاء الاصطناعي لن ينتظروا طويلا، وحتى إذا كان المهندسون على استعداد للانتظار، فلن ينتظر المستثمرون وراء المهندسين؛ وهذا يعني أنه ليس لدينا كثير من الوقت”.
ويرى هراري -وفق ما نقلته منصة “وايرد” (wired)- أن “ثورة أو أزمة الذكاء الاصطناعي ليست بكونه مجرد ذكاء اصطناعي، بل هي تدخل أيضا في علم الأحياء. إنها تكنولوجيا حيوية، وهناك الكثير من الضجيج الآن حول الذكاء الاصطناعي وأجهزة الحاسوب، لكن هذا مجرد نصف القصة؛ فالنصف الآخر هو المعرفة البيولوجية المقبلة من علم الدماغ وعلم الأحياء. وبمجرد ربط ذلك بالذكاء الاصطناعي، فإن ما تحصل عليه هو القدرة على اختراق البشر. وسأشرح ما يعنيه ذلك؛ إنه إنشاء خوارزمية تفهمني بشكل أفضل مما أفهم نفسي، وبالتالي يمكنها التلاعب بي، أو تحسيني، أو استبدالي”.
وهذا هو الرعب الذي يصيب أغلب البشر، من علماء ومفكرين وصولا إلى أصغر فرد في العالم؛ إنه الرعب من الاستبدال والاختراق.
واقع أو خيال؟
يجيب عن هذا السؤال جارون لانيير، وهو الأب الروحي للواقع الافتراضي، في رده على سؤال عما إن كان الذكاء الاصطناعي قادرا حقا على التفوّق علينا والاستيلاء على العالم، بالقول “هذا سؤال لا معنى له، وغير واقعي، وهو مجرّد خيال سخيف”، مؤكدا أن هذا يصلح فقط لأفلام الخيال العلمي، مثل “ماتريكس” و”تيرمنيتر”، وذلك في تصريحات نشرتها صحيفة “الغارديان” (The Gaurdian) البريطانية.
تُرى، لماذا هو خيال سخيف وغير واقعي؟ وهل وجد الذكاء الاصطناعي ليخدم البشر لا أن يسيطر عليهم ويدمرهم؟ ولماذا كل هذه الضجة؟ وهل الخطر الحقيقي يكمن في أن الذكاء الاصطناعي يقودنا إلى الجنون؟
لانيير لا يحب حتى مصطلح “الذكاء الاصطناعي”، ويعترض على فكرة أنه ذكي بالفعل، وأنه يمكننا التنافس معه، وقال “فكرة تجاوز قدرة الإنسان فكرة سخيفة، لأنها مصنوعة من قدرات بشرية، إن مقارنة أنفسنا بالذكاء الاصطناعي يعادل مقارنة أنفسنا بسيارة (…) إنه مثل القول إن السيارة يمكن أن تسير أسرع من العداء البشري. بالطبع يمكنها ذلك، ومع ذلك لا نقول إن السيارة أصبحت عداء أفضل”.
عمل لانيير (62 عاما) جنبا إلى جنب مع كثير من أصحاب الرؤى والوسطاء من ذوي النفوذ على الشبكة. وهو حاليا يعمل مع شركة “مايكروسوفت” بوصفه عالما متعدد التخصصات. وخلال سنوات عمله، تحدث عن الأخطار التي تمثلها شبكة الإنترنت.
ورغم كونه خبيرا تقنيا متميزا، فإن مهمته الأساسية هي الدفاع عن الإنسان ضد تغوّل “الرقمية” على حياتنا، وهو يذكّرنا في كتبه دائما بأننا صنعنا الآلات والذكاء الاصطناعي. وفي كتابه “10 أسباب لحذف حساباتك على وسائل التواصل الاجتماعي”، يجادل لانيير بأن الإنترنت يقضي على التفاعل الشخصي ويخنق الإبداع ويشوّه السياسة.
“أنت لست آلة”
يعتقد لانيير أن الروبوتات -مثل “شات جي بي تي” (ChatGPT) و”أوبن إيه آي” (OpenAI)- يمكن أن توفر الأمل للعالم الرقمي، ولطالما شعر بالفزع من أن الإنترنت أعطت مظهر تقديم خيارات لا حصر لها، ولكنها في الواقع خيارات متضائلة. حتى الآن، كان الاستخدام الأساسي لخوارزميات الذكاء الاصطناعي هو اختيار مقاطع الفيديو التي نرغب في مشاهدتها على “يوتيوب” (YouTube)، أو التي سنشاهد منشوراتها على منصات التواصل الاجتماعي. ويعتقد لانيير أن هذا جعلنا “كسالى وغير مبالين”.
ولكن ماذا عن الذكاء الاصطناعي الذي سيحل محلنا في مكان العمل؟ لدينا بالفعل احتمال قيام روبوتات المحادثة بكتابة مقالات وقصص صحفية. هنا يقول لانيير إنها “ليست التكنولوجيا التي تحل محلنا، بل طريقة استخدامنا لها. فما يغذي هذه الروبوتات بالمعلومات هم بشر قبل وبعد كل شيء”.
وفي كتابه “أنت لست آلة” (You Are Not a Gadget)، كتب لانيير أن الهدف من التكنولوجيا الرقمية هو جعل العالم أكثر “إبداعا وتعبيرا وتعاطفا وإثارة للاهتمام”، فهل تحقق ذلك؟
يجيب “حدث هذا في بعض الحالات؛ فهناك الكثير من الأشياء الرائعة على الإنترنت، ولكن هناك أيضا الكثير من الاستخدامات التكتيكية الرهيبة التي يمكن استخدامها. لا أعتقد أنها مخاطرة مقبولة، فنحن في النهاية لا نخشى سيطرة الذكاء الاصطناعي علينا، ولكن الخطر الأكبر في أنه يقود البشرية إلى الجنون، وهنا بالضبط قد يكمن مقتلنا. وبداية انقراضنا ليس بسبب الآلات والذكاء الاصطناعي، ولكن بسببنا نحن، وبسبب جشعنا وقلة بصيرتنا”.