مقالات

هشام الكندي يكتب: ثلاثة ليالي على اطلال المحبوبة الخرطوم

هشام الكندي يكتب: ثلاثة ليالي على اطلال المحبوبة الخرطوم

سنتين على لعنة الحرب حين وجد أهل السودان في صباح السبت الرمضاني الأسود أنفسهم ، بين هدير المدافع وزخات الرصاص وسياط جلاد المليشا تسوق خطاهم إلى الغدر اللعين ، ملأوا الطريق ، فارقوا الديار مكرهين ، لم تسعفهم الظروف لنظرة الوداع أو ترتيب

الحال ، خرج الناس إلى عالم المجهول يهتدون بفراسة النجوم لديار المحبوب حين سرى ليلا خيالاً من سليمى ، بين طرق العبور والتوهان ، منهم من إجتاز تضاريس طبيعة الرحلة ومنهم من مات عطشا بين حر الشمس والرمال ، قست عليهم الحياة بين الجلاد وقهر الطبيعة ، حتى أصبحت الرواكيب الصغيرة أكبر من مدن ،

يفترشون مراكز الإيواء ، تفرق شمل الأسرة الكبيرة والصغيرة ، إنعدمت موارد الدخل الحلال لرب الأسرة .

بسطت الخرطوم الحبل لنا فوصلن ما إتسع ، سنتين بين تناهيد الم الفراق لديار المحبوب ، القلب ظل مسهداً يناجي القمرة ليشفي غليل وجده ، ليكون الطيف زائراً يحكي ، جلسات السمر بين حدائق الاسكلا والبلدية مروراً بشارع النيل ومقرن النيلين ، جزيرة توتي عجبوني اولاد

الأهالي ، طابية امدرمان وبوابة عبدالقيوم ، دار الإذاعة وياصوتها لما سرى ، قاعة الصداقة وكليزيوم ، سوق عناقريب امدرمان ، دار الرياضة والعرضة وأبروف وحي العرب وسيف الدسوقي والوعد بينا كل يوم تكتب إلي ، ظبية المسالمة وبدور القلعة وجوهره ، قائد الأسطول

تخضع لك الفرسان ، شارع الإسبتاليا وكاترينا ، الجريف واللوبيا وذكرى من طرف الحبيب جات أغرب رسائل ، و بنحب من بلدنا وكلما عبثت به نسمة مال وإطرب ، وفي الطيف وفي الصحيان ، والصباح إن لاح لا فائدة في الإصباح .

مليشيات التتر والمغول غارت غدرا على جمال الخرطوم ، حولت كل ذلك التاريخ التليد إلى رماد واكوام من القبح ، سلبوا تاريخ حضارتنا من المتحف القومي ، حرقوا سارية عملنا الخالد تاريخ الأزهري والمحجوب ، حرقوا تاريخ نضال العروبة بقاعة الصداقة ولاءتها الثلاثة ، حرقوا امهات الكتب والمعاجم بالدار السودانية ومجمع اللغة

العربية ، احرقوا دار الإذاعة بإرث حقيبة الفن ، احرقوا مؤسسات التعليم العالي بوزاراتها وجامعاتها ، احرقوا مشافي الخرطوم ونهبوا معاملها ، نهبوا محطات الكهرباء وكوابل النحاس ، أخرسوا ضحكات أطفال الجد شعبان ، أخرسوا جرس صباح طابور المدراس ، اخرسوا ابواق تاكسي الخرطوم ، دمروا مساجدها فلا الآذان اذان في مآذنها وإن تعالى .

مرت لحظات الى ساعات الى يوم في يوم غريب الى إسبوع تمام إلى السنين العشت فيها معاك هناي ، لم تفارقني ذكرى ديار المحبوب مسهدا أناجي الليل حتى أصبحنا أنا والنجم زملان ، وحال المحبوب ليه ياشمعه سهرانه ، سنتين على نار البعد والغربة ، نبض قلوبنا تسبق

الخطاوي ، وصلت قافلتنا ديار المحبوب ، ثلاثة ليالي بين الركام ، صور مشاهد الخراب والدمار الجمت صدورنا ، خيام المحبوب حين كنا نستغرق النظر من السمحة أم عجن ، بيوت الشعر وخيمة الرجال أصبحت رمادا وحطاما ، سلبوا اسورة وخلخال ذهب عبله ، سلبوا كل شيء

جميل في الديار ، لم يبقى سوى قبح المكان وقفا نبكي من ذكري حبيب ومنزل ، لكنهم لن يستطيعوا ان يسلبوا تاريخ مجد الإنسان ، وسيفك (عنتره) أغلال الحديد من أسوار القيادة حين يتردد صدى المحبوب الخرطوم تناديني ، ستخرج كطائر العنقاء من تحت الرماد ، وتنداح قصائد الإنتصار بين أسواق عكاظ ومهرجان المربد وسمتطيء أميرة الشعراء بت الحاج جواد بيت القصيد بأن الجملية الخرطوم حرة رغم غائر الجرح تعانق الكبرياء والشموخ .

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى