الأخبارتقارير

نهب المتحف القومي في السودان: سرقة التاريخ واغتيال الحضارة

نهب المتحف القومي في السودان: سرقة التاريخ واغتيال الحضارة

تقرير | رحمة عبدالمنعم

في مشهد يلخص مأساة السودان الثقافية، لم يبقَ من متحف السودان القومي سوى أطلال صامتة تروي تفاصيل جريمة غير مسبوقة في تاريخ البلاد. حيث كانت تقف تماثيل الملوك النوبيين شامخة، وتحتضن القاعات

مومياوات تعود إلى آلاف السنين، لم يعد سوى فراغ ينطق بالحسرة. فقد تعرض المتحف لعملية نهب ممنهجة، نُهبت خلالها كنوزه الأثرية الثمينة، وهُرّب بعضها إلى دول أفريقية، بينما ظهر البعض الآخر معروضًا للبيع في الأسواق السوداء.

متحف بلا مقتنيات.. شاهدٌ على الدمار

كشف مراسل رويترز الطيب صديق، في منشور على فيسبوك، عن حجم الدمار الذي شهده المتحف القومي عقب تحريره من قبضة مليشيا الدعم السريع، قائلاً:
“الليلة مشينا المتحف القومي… لم ينجُ سوى تماثيل الأسد أبادماك، وأمون، والملك تهارقا، وبعض الجداريات. أما مقتنيات المتحف ومخازن الآثار فقد نُهبت وسُرقت ودُمرت. يوم حزين…”

كلمات تحمل وقع الصدمة والمرارة، إذ كان المتحف القومي، الذي يُعد أحد أهم المتاحف في أفريقيا، هدفًا لعملية نهب استمرت لأشهر، ليُترك اليوم شبه خاوٍ إلا من جدران صامتة تروي فصول الكارثة.

سرقة منظمة وتهريب عبر الحدود

لم تكن هذه السرقة مجرد عملية سطو عادية، بل جاءت وفق مخطط دقيق نفذته مليشيا الدعم السريع منذ سيطرتها على المتحف في أبريل 2023. وأظهرت صور الأقمار الصناعية شاحنات محملة بالآثار تغادر المتحف باتجاه جنوب السودان، بينما ظهرت لاحقًا بعض القطع المسروقة في الأسواق السوداء بدول مجاورة.

وأكدت مديرة الهيئة القومية للآثار والمتاحف، د. غالية جار النبي، أن السرقة تم توثيقها عبر صور أرسلها مجهولون، تُظهر قطعًا أثرية سودانية تُباع في المناطق الحدودية، مشيرةً إلى أن معظم القطع المسروقة كانت مخزنة في مستودع محصن داخل المتحف، وهو ما يفسر دقة التخطيط للجريمة.

تحرير المتحف.. ولكن بعد فوات الأوان

بعد تحرير المتحف، وجد الجيش نفسه أمام كارثة ثقافية غير مسبوقة، حيث اختفت معظم مقتنياته التي تعود إلى حقب تاريخية مختلفة، من العصر الحجري مرورًا بالعصور الفرعونية والمروية والمسيحية، وصولًا إلى الحقبة الإسلامية. ووفق مصادر عسكرية، فقد تم رصد شاحنات محملة بآثار ثمينة تغادر نحو جنوب السودان، لكن حتى الآن لا تزال أماكن وجود هذه الكنوز مجهولة.

تقارير دولية تدق ناقوس الخطر

كانت صحيفة “الغارديان” البريطانية من أوائل وسائل الإعلام الدولية التي نشرت تقارير عن نهب المتحف، مؤكدةً أن صور الأقمار الصناعية وثّقت عمليات التهريب. كما كشفت تقارير أخرى أن مقاتلي مليشيا الدعم السريع اقتحموا مختبر الآثار الحيوية بالمتحف وفتحوا حاويات تحتوي على مومياوات وأشياء نادرة.

إرث حضاري على المحك

افتُتح متحف السودان القومي عام 1971، وكان يُعدّ مرآةً تعكس تعاقب الحضارات السودانية، إذ يضم تماثيل الملوك النوبيين، ومخطوطات قديمة، وأسلحة تعود للعصور الوسطى، إضافةً إلى مومياوات فرعونية تُعتبر من الأقدم في العالم. كما كان يضم متحفًا مفتوحًا يعرض معابد أثرية نُقلت من مناطق سدّ العالي، وأعمدة كاتدرائية فرس من الفترة المسيحية.

لكن اليوم، وبعد عمليات النهب والتخريب، تحوّل هذا الإرث إلى مجرد ذكريات، ومجموعة من القطع المتناثرة في أسواق العالم السوداء.

مساعي الاسترداد.. ولكن بأي ثمن؟

أكدت د. غالية جار النبي أن الهيئة القومية للآثار والمتاحف بدأت تحركات عاجلة بالتنسيق مع اليونسكو والإنتربول لتعقب القطع المنهوبة واستعادتها. لكن في ظل الأوضاع الأمنية المتدهورة، قد تستغرق عملية استعادة هذه الكنوز سنوات طويلة.

سؤال مفتوح: هل سيعود التاريخ المنهوب؟

نهب متحف السودان القومي ليس مجرد جريمة سرقة، بل هو اعتداء على ذاكرة الأمة السودانية وتراثها العريق. ومع استمرار الحرب، تتوالى الجرائم ضد الإرث الثقافي، وسط صمت دولي مريب.

واليوم، بينما يحاول الجيش تأمين ما تبقى من المتحف، تبقى الأسئلة بلا إجابة:
هل سيتمكن السودان من استعادة تاريخه المنهوب؟ أم أن حضارة وادي النيل ستتحول إلى قطع متناثرة في مزادات العالم؟

إشتياق الكناني

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى