نهاية الخبز والسياسة.. كيف هزمت الطبقة الوسطى المصرية نفسها؟
في إحدى جلسات مؤتمر الشباب السابع في مصر، حدث أن عُرض على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي صورة ساخرة “كوميك” تُظهر الضفدع “كيرميت” مُمسِكا بالميكرفون، ومُعلِنا “وفاة المغفور لها الطبقة الوسطى بعد صراع طويل مع البلد”، لم يُعلِّق السيسى على الأمر، فقط اكتفى بإطلاق بعض الضحكات الخفيفة غير المبالية، شهر واحد عقب هذا المؤتمر، تحديدا في سبتمبر/أيلول 2019، واندلعت أول احتجاجات اقتصادية واجتماعية من نوعها في عهد السيسي، ولم يكن للطبقة الوسطى أي حضور فيها.
في العالم التالي 2020، خرجت التظاهرات حتى من قبل سبتمبر/أيلول، وكانت مطالبها في مجملها اقتصادية واجتماعية، ومرة أخرى، كان هناك غياب يكاد يكون تاما للطبقة الوسطى المصرية العريضة، رغم أنها مُتضررة بالدرجة الأولى من مشروع السيسي الاقتصادي والاجتماعي، حيث تصدَّرت المشهد مُجددا الطبقات الدنيا، وهو أمر يدعو للاندهاش، خاصة حين نعرف أن البنك الدولي وثَّق في بيان صادر عام 2016، أي في بدايات برنامج الإصلاح الاقتصادي للسيسي، وثَّق تسجيل الطبقة الوسطى المصرية “أكبر تراجع لطبقة متوسطة على مستوى العالم” منذ بداية الألفية وحتى تاريخ صدور البيان، مُتقدِّمة على اليونان والأرجنتين وروسيا.
وفقا للبيان الدولي، تقلَّصت الطبقة المتوسطة في مصر بأكثر من 48%، لينخفض عددها من 5.7 مليون شخص بالغ في عام 2000 إلى 2.9 مليون بالغ في 2015، يُمثِّلون نسبة 5% فقط من إجمالي البالغين، ويستحوذون على ربع الثروة الوطنية، على الرغم من أن مساهمتهم في الناتج المحلي أضعاف تلك النسبة. في الحقيقة، لا يمكننا أن نُحمِّل السيسي وسياساته وحدهما المسؤولية عن هذا التراجع الدرامي للطبقة الوسطى، حيث يمكن اعتبار ثورة 25 يناير 2011، في إحدى صورها، انتفاضة للطبقة الوسطى المصرية في وجه السياسات التي أدَّت إلى إفقارها وتهميشها، وهي سياسات دُشِّنت في المقام الأول في عهد حكومات رجال الأعمال السابقة على الثورة، بقيادة عاطف عبيد وأحمد نظيف.
بعبارة أخرى، يمكننا اعتبار الحراك السياسي المصري منذ عام 2005 مرورا بثورة يناير احتجاجا للطبقة الوسطى على سياسات الإفقار التي تُهدِّد وجودها، وبرامج صندوق النقد وحكومات رجال الأعمال، وهو الحراك الذي استمر حتى عام 2013 بتظاهرات ضخمة ضد الحكم الناشئ لجماعة الإخوان المسلمين، قدَّمت بوعي تام -على الأغلب- غطاء شعبيا للانقلاب العسكري، الذي قضى على الحياة السياسية تماما في مصر، وأعاد الطبقة الوسطى والمجتمع كله إلى وضعية أسوأ مما كانت عليه قبل بداية الحراك كله في 2005.
وفي حين أن مشهد 30 يونيو/حزيران بدا في جوهره انحيازا حاسما من الأغلبية العظمى من الطبقة الوسطى المصرية لصالح الحكم العسكري ورفضا للعملية السياسية ومسار التحوُّل الديمقراطي المضطرب الذي أفرزته الثورة، فإن النظام العسكري بقيادة السيسي لم ينحز بأي شكل إلى الطبقة الوسطى التي حملته للسلطة، وبدلا من ذلك تسبَّبت سياساته في إضعافها وتحطيمها، بوتيرة أسرع مما فعلته كل الحكومات السابقة.
ورغم ذلك، ووسط تجدُّد احتجاجات الفئات الدنيا في الأطراف والقرى والأحياء المُهمَّشة، تغيب الطبقة الوسطى عن المشهد الاحتجاجي في مصر تماما، رغم شبح الانقراض الذي يتهدَّدها بحسب بيانات بنك كريدي سويس المتخصص في تقدير الثروات، وهو ما يقودنا إلى سؤال جوهري وحرج: لماذا توقفت الطبقة الوسطى المصرية عن الاحتجاج وتراجعت إلى الصفوف الخلفية للمشهد السياسي، في الوقت الذي تتعرَّض فيه لأشرس هجوم في تاريخها؟
لا يُمكن فهم الارتداد السريع للطبقة الوسطى، من تأييد الثورة إلى دعم الانقلاب العسكري، دون فهم كيفية تَشَكُّل الطبقة الوسطى وعلاقتها بالسلطة السياسية في مصر. في كتابه “ولادات متعسرة: العبور إلى الحداثة في الشرق والغرب”، يُسجِّل الأكاديمي وعالم الاجتماع عصام خفاجي ملاحظة تأسيسية، وهي أن علاقة الدولة بالطبقات الحديثة في مصر تتبع نمطا معاكسا لنظيرتها في الغرب الأوروبي والأميركي، ففي حين أن وجود الطبقة كان سابقا لوجود الدولة نفسها في الغرب الحديث، فإن النقيض تماما هو ما حدث في الشرق وتحديدا في مصر.
يشرح إيريك هوبزباوم (1) بالتفصيل كيف تشكَّلت الطبقة البرجوازية الصناعية والتجارية في غرب أوروبا، وصاغت حقوقها الأساسية مثل ضمان الحرية الفردية وحق التملك والتنقل والاعتقاد وحرية التعبير والتنظيم السياسي والاجتماعي، ثم جاءت الدولة لاحقا لضمان تلك الحقوق وحمايتها، في المقابل يُقدِّم لنا نزيه الأيوبي (2) تأريخا اقتصاديا لقيام الدولة المصرية الحديثة على يد محمد علي، حيث لم تكن الدولة فقط غير مُمثِّلة لمصالح المجتمع الأهلي التقليدي، ولكنها قامت في الأساس لمواجهته، حيث فكَّك محمد علي كل البنى والتشكيلات الاجتماعية التقليدية القائمة، فضلا عن تصفية كل النخب والوجاهات الاجتماعية التي أفرزها المجتمع، قبل أن يُؤسِّس دولته الحديثة ويخلق طبقاتها الخاصة من العسكريين والتكنوقراط والفنيين والإداريين، طبقات بدأت بالتوسُّع لاحقا مع فرض التعليم الحكومي الإلزامي بديلا عن حلقات العلم ونقل المعرفة الإسلامية التقليدية.
في ظل دولة محمد علي، نشأت بالتدريج طبقة وسطى كبيرة عدديا، ترتبط جنينيًّا بالدولة الأم، حيث خلقت الدولة المصرية طبقتها الوسطى خلقا، في نموذج مناقض للتحديث الأوروبي، وقد لعبت السياسات الاقتصادية التي اتبعها دورا كبيرا في إعادة صياغة الطبقة الوسطى، وتوسيع رقعتها، وتغيير سماتها. وبشكل خاص، وكما يُشير الباحث المصري أحد طه في مقاله المعنون “الطبقة الوسطى المصرية.. من الدولة وإليها”، فقد مثَّل نظام التعليم الحديث الذي أنشأه محمد علي “معمل التفريخ الأساسي لموظفي الجهاز الإداري للدولة، مُكوِّنا الشريحة الرئيسية للطبقة الوسطى التي اتسمت بالولاء الكامل للدولة كونها تعلَّمت في مدارسها، وتوظَّفت في دواوينها. ومن جهة أخرى، وبموجب نظام الاحتكار الذي أنشأه محمد علي، صارت الدولة الزارع الأول والصانع الأول والتاجر الأول. باختصار، أحكمت الدولة سيطرتها على المجتمع ولم تترك له أدنى مساحة للحركة الذاتية” (3)، وبعبارة أخرى، كان التعريف الرئيسي لتلك الطبقة الوسطى لنفسها ورؤيتها لذاتها في أول عهدها يُلخِّصه شعار “عبيد إحسانات أفندينا”.
مع هزيمة محمد علي وتدهور نظامه الاقتصادي الاحتكاري وازدياد النفوذ الأجنبي ثم مجيء الاستعمار، تحلَّلت الطبقة الوسطى تدريجيا بعدما فقدت السلطة والرحم الذي خلقها وأتى بها إلى الوجود، وظل الحال على ما هو عليه حتى جاء انقلاب 23 يوليو ونظام الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر في منتصف القرن الماضي، قام النظام الناصري بعملية هندسة اجتماعية واسعة للمجتمع المصري، صفَّى من خلالها الطبقة الأرستقراطية الزراعية سياسيا واقتصاديا، عبر قانون الإصلاح الزراعي وتنظيم الملكية الزراعية وتحديد حجمها وتوزيع فائض الأراضي على الفلاحين، لكن الخطوة الأهم التي قام بها النظام الناصري هي إعادة تشكيل الطبقة الوسطى المصرية من جديد، عبر إجراءات التأميم وتوسيع البيروقراطية، ومجانية التعليم، وتحديد إيجارات المساكن والتوسُّع في بناء الأحياء السكنية، والتزام الدولة بتعيين جميع خريجي الجامعات وحملة المؤهلات المتوسطة في الحكومة وشركات القطاع العام، والتوسُّع في قبول أبناء الطبقات الوسطى في الكليات العسكرية والشرطية والسلك القضائي والنيابي، فضلا عن شبكة الدعم الاجتماعي الواسع التي أنشأها النظام لدعم قطاعات الصحة والغذاء (4).
شكَّلت هذه الإجراءات أركان عملية الهندسة الاجتماعية الجذرية التي مكَّنت نظام عبد الناصر من بناء طبقة وسطى واسعة مرتبطة بنظامه ارتباطا عضويا، تعيش على السلع الغذائية التي يدعمها، ويُشرف على صحتها وعلاجها القطاع الصحي العام الذي تُموِّله الحكومة، وتُعلِّم أبناءها في التعليم الحكومي المجاني، وتستلم رواتبها شهريا من عملها بالقطاع العام الحكومي والبيروقراطية المصرية، التي تُعيَّن فيها تحت إشراف الدولة. شكَّلت تلك العلاقة المعكوسة الخيال السياسي للطبقة الوسطى المصرية بشكل يحتقر السياسة، ويرى فكرة الصراع من أجل السلطة خيانة للوطنية المصرية وتهديدا لسلامة الدولة، فضلا عن تسبُّبها في غياب روح المبادرة الفردية في الاقتصاد والاستثمار، وفي بناء المجتمع المدني والانضمام لنقابات وأحزاب ومنظمات أهلية وحقوقية وغير ذلك، بالإضافة إلى غياب أي ثقافة ليبرالية تُقدِّس سرية الحياة الخاصة وتفصل بين العام والخاص، وتؤمن بأهمية الحقوق والحريات الفردية.
وبحسب الباحث المصري أحمد طه (5)، فإن الطبقة الوسطى باتت تعاني من “عيب خَلقي”، كونها وُلِدت بقرارات سلطوية، وإجراءات فوقية، واعتمدت في نموها وانتشارها، بالدرجة الأولى، على مشاريع الهندسة الاجتماعية التي تبنَّتها الدولة المصرية، فلم تُولد الطبقة الوسطى نتيجة صراع مع السلطة، ولم تدخل في اشتباك مع الدولة للدفاع عن مصالحها أو المطالبة بحقوقها، الأمر الذي جعل مكاسبها رهينة بيد الدولة، “ما أورثها نزعة استسلامية تجاه تلك الدولة، جعلتها في حالة “قناعة دائمة” بما تجود به الأخيرة عليها. وهنا، يتضح الفارق بين الطبقة الوسطى المصرية، من حيث ظروف النشأة، وبين نظيرتها الأوروبية، فقد شقَّت الثانية طريقها بيدها بالدفاع عن مصالحها، ولم تنتظر منحة أو هبة من الدولة، فسارت علاقتها بالدولة في الاتجاهيْن، ضغط من الطبقة الوسطى، للدفاع عن مصالحها وحقوقها، يقابله استجابة من الدولة، بإصدار تشريعات تُلبِّي مطالب الطبقة الوسطى، بعكس ما حدث في مصر، حيث كانت علاقة الطبقة الوسطى بالدولة أُحادية الاتجاه، لعبت فيها الدولة الدور الأكبر، وأحيانا لعبت الدورين معا، فكانت هي الدولة والطبقة”، مما قضى على كل فرصة تاريخية لنمو الطبقة الوسطى في مصر بوصفها طبقة اجتماعية لها فعالية سياسية واقتصادية.
على عكس الدعاية والبروباغندا الضخمة حول اشتراكية عبد الناصر ونظامه وانحيازهما للطبقات الفقيرة والكادحة، يذهب الدكتور جلال أمين إلى أن النظام الناصري كان نظام الطبقة الوسطى بامتياز، ففي حين عادَى الطبقة الإقطاعية القديمة، تجاهلت سياساته الطبقات الفقيرة والمُعدمة تماما، “حيث اتخذت الدولة المصرية خلال حكم عبد الناصر الكثير من القرارات التي كانت تُحقِّق مصالح الطبقة الوسطى بالذات، أو شرائح معينة منها، حتى لو تعارضت هذه الإجراءات تعارضا واضحا مع مصالح الطبقات الدنيا، كما أنها تجاهلت بعض الحاجات الأساسية لهذه الطبقات الدنيا، عندما كان إشباع هذه الحاجات يتعارض مع مصالح الطبقة الوسطى” (6) .
أحد الأمثلة الدالة التي يسوقها أمين على انحياز نظام يوليو في نسخته الناصرية للطبقة الوسطى دون غيرها هو “ما أعطته الدولة للطبقة الوسطى من امتيازات في الحصول على أراضي البناء والشقق السكنية وفي بناء المصايف الحديثة، وفي تحديد ما يتم إنتاجه واستيراده من سلع، وتقديم الدعم إلى بعض أنواع السلع والخدمات التي لا يستفيد منها إلا الطبقات متوسطة الدخل في ذلك الوقت، كالسيارات وأجهزة تكييف الهواء والثلاجات. لذلك كان هناك تفضيل واضح عند تحديد الأولويات لمطالب الطبقة الوسطى، بينما كان يمكن التضحية بحاجات أكثر إلحاحا لأقل الناس دخلا، كتدشين برنامج طموح لتحسين الحياة في القرى المصرية بمعدل أسرع، سواء عبر توفير المياه الصالحة للشرب في بيوت الفلاحين أو تزويدها بالكهرباء على سبيل المثال، وهي مشكلات كانت تعاني منها بالفعل مناطق عديدة من الريف المصري والأحياء الفقيرة على أطراف المدن حتى بعد وفاة عبد الناصر” (7).
كانت هذه السياسة الناصرية بمنزلة اتفاق ضمني غير مكتوب مَثَّل جوهر العقد الاجتماعي الذي قامت على أساسه دولة يوليو السلطوية والمرتكزة سياسيا على الطبقة الوسطى بوصفها قاعدة اجتماعية تابعة لها، عنوان هذا الاتفاق كان “الخبز مقابل السياسة”، أي تنازل المواطنين عن ممارسة حقوقهم السياسية والدستورية كونهم مواطنين، وتحوُّلهم إلى رعايا، لكن بدلا من كونهم عبيد إحسانات أفندينا في زمن محمد علي، تحوَّلوا إلى عبيد إحسانات دولة يوليو كلها، حيث رأى أفراد الطبقة الوسطى في سياسات دعم السلع الأساسية وتوفيرها للمواطنين، مثل الخبز، والسكّر، والزيت، والأرز، إلى جانب دعم المحروقات وخدمات الكهرباء والمياه، أو التزام الدولة بتوظيف الخريجين في الجهاز الحكومي وشركات القطاع العام هي إحسانات أفندينا الجديد، بلا حقوق اجتماعية واشتراكية كما تقول دعاية النظام.
في مقابل قيام الدولة بواجباتها الاقتصادية والاجتماعية، أُمِّمَ المجال السياسي كاملا، فبعد قرار إلغاء الأحزاب السياسية، “سعى النظام الجديد إلى ملء هذا الفراغ باعتماد نظام الحزب الواحد، أو التأسيس الفوقي لـ “التنظيم الشمولي الأوحد” الذي قيل إنه الإطار الجامع لطبقات المجتمع وفئاته كافة، غير أنه في الحقيقة كان حكرا على أبناء الطبقة الوسطى فقط من خريجي الجامعات والتعليم الحكومي والعاملين بالبيروقراطية المصرية، فتمّت مصادرة التعددية الاجتماعية والسياسية لصالح الطبقة الوسطى، تحت شعارات “تعبوية” في الخطاب الرسمي، تدور حول مبدأ “الاصطفاف الوطني”، مثل “الاتحاد والنظام والعمل”، و”تحالف قوى الشعب العامل”، و”تذويب الفوارق بين الطبقات” (8).
منذ السبعينيات والانقلاب الساداتي على النظام الناصري، دخلت دولة يوليو في طور جديد من علاقتها بالطبقة الوسطى. جرى التلاعب بالمعادلة الناصرية قليلا، حيث قلَّلت الدولة من انحيازها إلى الطبقة الوسطى لصالح فتح المجال للطبقة العليا، مُتخلِّية بذلك عن الوفاء ببعض التزاماتها الاقتصادية والاجتماعية، لكنها في المقابل فتحت المجال لحياة سياسية وتعددية محدودة (9)، فبقدر ما تخلَّت الدولة عن توفير الخبز سمحت ببعض السياسة، وهو الأمر الذي استمر في العقديْن التاليين على تولي مبارك الحكم، حيث ظلَّت الدولة محكومة بالمعادلة المؤسسة لدولة يوليو؛ مُعادلة الخبز والسياسة، التي كان مبارك يعيها تماما فلم يقترب طيلة حقبتَيْ الثمانينيات والتسعينيات من منظومة الدعم الغذائي والبترولي والتعليم المجاني والقطاع العام الصحي، وحافظ على ثبات نسبي لسعر العملة المحلية، وضبط الأسعار، مع فتح هامش يتسع مع الوقت للطبقات العليا في الاستهلاك والعمل والاستثمار.
خلال العقد الأخير من فترة مبارك بدأت تلك المعادلة في الاختلال، حدث هذا مع وصول كبار رجال الأعمال إلى صدارة المشهد السياسي، فيما عُرف لاحقا بـ “تزاوج رأس المال والسلطة”؛ حيث يُشير عدد واسع من الإحصائيات والتقارير (10) (11) إلى أن هذا العقد شهد تحوُّلا لافتا في الاجتماع السياسي والاقتصادي المصري، إذ ارتفعت معدلات الفقر، لأول مرة منذ الاستقلال الوطني، وهبط عدد من أُسر الطبقة المتوسطة إلى الطبقات الفقيرة، بعد السماح بنِسَب أعلى من التضخُّم وارتفاع للأسعار، تحت نظر حكومة رجال الأعمال الأولى لعاطف عبيد (1999 -2004)، بهدف علاج عجز الموازنة تشجيعا للاستثمار الأجنبي، وهو الأمر الذي استمر أيضا مع الحكومة التالية برئاسة أحمد نظيف (2004-2011)، مع سيطرة النخبة الاقتصادية الجديدة لرجال جمال مبارك على الحزب الحاكم.
استشعر الجميع في مصر جدية هذا التحوُّل، وما يُمثِّله من تهديد جذري لمعادلة الخبز والسياسة التي طبعت العلاقة بين السلطة والمجتمع المصري وفي القلب منه الطبقة الوسطى المصرية، وبدأت الحياة السياسية المصرية في التخلُّص من الركود الطويل الذي أصابها، ظهرت حركة معارضة أخذت تتصاعد وتنتشر بتسارع، بداية من حركة كفاية وحركة 6 إبريل وحملة دعم البرادعي، ونشأت منظمات مجتمع مدني حقوقية واجتماعية، وأُنشِئت أحزاب جديدة كحزب الجبهة الديمقراطية وحزب الوسط وحزب الغد، فضلا عن تجمُّع كتل مهنية مختلفة لمعارضة النظام داخل النقابات، مثل “محامون من أجل التغيير” و”أطباء من أجل التغيير” و”مهندسون من أجل التغيير”، وتصاعدت الإضرابات والاحتجاجات العُمالية، وصولا إلى خروج حركة معارضة قوية من قلب القضاء المصري مُتمثِّلة في حركة “قضاة من أجل الاستقلال”، وبالتوازي مع كل ذلك ظهرت صحف جديدة مستقلة، ودخل العديد من المثقفين والكُتَّاب والإعلاميين على خط المعارضة الجديد في المنصات الإعلامية المختلفة، وفي المقابل زادت حِدَّة القبضة الأمنية للنظام، وظهر للجميع داخل مصر وخارجها أن الدولة والمجتمع في مصر أصبحا على مفترق طرق (12).
بدا للناظر من بعيد أن الطبقة الوسطى في مصر تُهيئ نفسها لأول مرة، ربما منذ انقلاب جمال عبد الناصر، لجولة من الصراع السياسي للحفاظ على مكتسباتها، أي الحفاظ على حقها في الخبز -منظومة الرفاه والدعم- ونصيبها من العقد الاجتماعي لدولة يوليو، أو لتجاوز هذا العقد كله والظفر بالخبز والسياسة معا، أي إقامة حياة سياسية سليمة لأول مرة في تاريخ مصر.
تتفق غالبية التحليلات أن ثورة يناير هي انتفاضة الطبقة الوسطى بالأساس، ورغم مشاركة الشرائح الدنيا والمُهمَّشة الحاسمة فيها، فإن الانتفاضة هي ابنة حراك الطبقة الوسطى الذي بدأ مطلع الألفية، مع تآكل معادلة الخبز مقابل السياسة المؤسِّسة لدولة يوليو وطبقتها الوسطى، فمع تراجع هذا الاتفاق بدأت قطاعات الطبقة الوسطى المصرية تتصرَّف لأول مرة كطبقة اجتماعية حقيقية لديها مصالح وحقوق تشتبك مع السلطة السياسية من أجل الحفاظ عليها، كانت الثورة هي ابنة كل الحراك الذي نتج عن اختلال المعادلة، مع انتشار المعارضة داخل النقابات والصحف والقنوات التلفزيونية الجديدة والمدونات والحركات الاحتجاجية والنخب السياسية المُعارضة.
في كتابه “الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضات العربية”، يذهب الدكتور جلبير الأشقر إلى أن حراك يناير كان يحمل كل عوامل فشله داخله، فرغم أن قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى شقَّت عصا الطاعة وخرجت تحتج على سياسات النظام الحاكم، فإنها لم تحمل داخلها أي نية للاستيلاء على السلطة، مردفا أن عفوية الحراك، وعدم طرح أي بدائل حقيقية لسياسات جمال مبارك وأحمد عز الاقتصادية، لم تكن إلا تعبيرا عن رؤية الطبقة الوسطى لنفسها، فهي لا ترى نفسها مثل نظيرتها في الغرب طبقة مؤهَّلة لحُكم نفسها، ولها أحقية في صياغة الدولة والسلطة السياسية بما يناسب أهدافها ومصالحها، لكنها خرجت تُطالب بتدخُّل مؤسسات الدولة العميقة، مُمَثَّلة هنا في البيروقراطية العسكرية التي أسَّست وخلقت الطبقة الوسطى، ضد النفوذ المتزايد لرجال الأعمال الذي بدأ مطلع الألفية، مع سيطرة مجموعة جمال مبارك وأحمد عز على القرار الاقتصادي والموارد العامة، بشكل أخلَّ بالاتفاق التاريخي بين الطبقة ودولة يوليو العسكرية.
ويشرح جلبير أشقر مردفا: “إن النشطاء وجماعة الإخوان الذين تصدَّروا الثورة لم يفهموا جيدا حدود الحراك الذي انخرطوا فيه، حين بدؤوا بالتصعيد ضد المؤسسة العسكرية والمطالبة بمدنية الدولة وإخراج الجيش من السياسة”، وهو ما يُفسِّر لماذا لم تحز مطالبهم حول مدنية الدولة وإسقاط الحكم العسكري أي اهتمام شعبي، يُفسِّر هذا التحليل السؤال الذي بدأنا به بداية التقرير: لماذا توقفت الطبقة الوسطى عن الاحتجاج وتراجعت إلى الصفوف الخلفية للمشهد السياسي؟
بحسب جلبير، فإن رهان الطبقة الوسطى بالأساس كان على جهاز الدولة الذي خلقها والعقد الذي وقَّعته معه قبل خمسين عاما، وهو ما يُفسِّر الانقسام الحاد الذي حدث عقب تنحي مبارك مباشرة، فمثقفون مثل جلال أمين وجمال الغيطاني وعبد الحليم قنديل وإبراهيم عيسى وخالد يوسف وغيرهم رأوا في انحياز الجيش لمطالب يناير واعتقال رجال الأعمال أحمد عز وزهير جرانة وأحمد المغربي وأحمد نظيف وعاطف عبيد مع علاء وجمال مبارك، بالإضافة إلى اضطرار آخرين كرشيد أحمد رشيد للهرب، من اختيار غيرهم النفي الإرادي خارج البلاد بعد تحريك دعاوى قضائية ضدهم، وانتقال السلطة التنفيذية والتشريعية إلى القوات المسلحة بعد تنحي مبارك، رأوا فيه إنقاذا لمصر التي يعرفونها ونصرا نهائيا لثورة يناير، بينما كان النشطاء الشباب أكثر تشكُّكا في هذه السردية وأعظم رغبة في البحث عن تغيير أكثر عمقا.
بعد عملية سياسية قصيرة لم تكن ناجحة جدا، خرجت الطبقة الوسطى بحشد تاريخي تطالب بالعودة إلى أحضان الدولة مجددا، وتناشدها للتدخُّل لإنقاذها من فوضى الثورة، كما أنقذتها من سُلطة رجال الأعمال المتنامية ومشروعهم الليبرالي الجديد. ووسط تأييد شعبي كبير، وصل قائد الجيش إلى قمة السلطة في مصر، وفي غضون عامين فقط كان قد نجح في تفكيك كل البنى التنظيمية التي أشعلت الثورة، حتى أعلن للطبقة الوسطى التي حملته على أعناقها أسوأ مفاجأة في تاريخها البائس كله.
لقد تخلَّت دولة يوليو بنفسها عن الطبقة الوسطى، بعد أن تنازلت الأخيرة عن كل أوراقها تقريبا، أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في بداية نوفمبر/تشرين الثاني 2016 عن البدء في تطبيق سياسات اقتصادية من شأنها إعادة صياغة الخريطة الاجتماعية والطبقية في مصر، ليس أكثرها خطورة تعويم العُملة المحلية والبدء في إجراءات رفع الدعم، ولكن القضاء على منظومة الرفاه كاملة التي لم يجرؤ أن يقترب منها أحد منذ جمال عبد الناصر، عبر تحويل المرافق العامة كالتعليم الحكومي المدرسي والجامعي ومؤسسات الصحة العامة وحتى الطرق السريعة والمحاور الرئيسية داخل المدن إلى مراكز ربحية، دون أي أهداف اجتماعية وطنية، فضلا عن مُضاعفة الضرائب بأنواعها، والجمارك، وأسعار خدمات النقل الحكومي والخاص، وكل الرسوم والمعاملات الحكومية دفعة واحدة، وأخيرا رفع سعر الوقود بنِسَب تصل إلى 87%، وانسحاب الدولة تماما من عملية ضبط الأسعار والسماح بنِسَب تضخُّم مرتفعة دائما.
بحسب العديد من التحليلات (13)، تُمثِّل السياسات التي انتُهِجت منذ أواخر 2016 حدثا مفصليا في تاريخ مصر، كونها تضع حدًّا فاصلا لسياق امتدّ عقودا طويلة، وأنهت صفقة الشيطان التي عقدتها الطبقة الوسطى مع دولة 23 يوليو العسكرية، حين قَبِلت التنازل عن حقوقها السياسية مقابل بعض الخبز مُمَثَّلا في شبكة الرفاه والتضامن الاجتماعي الناصرية، وطوال تلك العقود كانت دولة يوليو حين تُلغي بعض الخبز فإنها تسمح في المقابل ببعض السياسة، ولكن اليوم مع قدوم السيسي، تُعلن الدولة تخلِّيها عن واجباتها الاقتصادية والاجتماعية (الخبز)، في الوقت الذي لا تسمح فيه حتى بالحد الأدنى من السياسة، مُعلِنةً للجميع أن العقد الاجتماعي لدولة يوليو قد انتهى إلى غير رجعة.
تنازلت الطبقة الوسطى عن السياسة مقابل الخبز، وها هي أخيرا تخسر الخبز دون أن تفوز بالسياسة. ومع تقلُّص الطبقة الوسطى إلى النصف خلال أقل من عقدين، يتوقَّع بنك “كريدي سويس” أن الطبقة الوسطى في مصر لن تصمد خمسة عشر عاما أخرى تحت حكم السيسي، وهو ما يتفق مع بيانات البنك الدولي، التي تُشير إلى أنه حال استمرار هذه السياسات لعقديْن أو أكثر، فإن الطبقة الوسطى المصرية سوف تكون مُعرَّضة للانقراض.
يبدو أن تلك هي النتيجة المنطقية لحقيقة أن الدولة المصرية هي التي أنشأت الطبقة الوسطى ودعمتها، أنها في نهاية المطاف هي التي تُجهز عليها، فمأزق الطبقة الوسطى الحقيقي يَكمُن في أنها صنيعة الدولة منذ البداية، ولم تكن وليدة لسيرورة صراع تاريخي مع السلطة أو مع الطبقة العليا، ولذلك لا يدعو للدهشة أبدا أنها أهدرت فرصتها التاريخية في ثورة يناير لأن تُنشئ هي الدولة، مثلها مثل أي طبقة وسطى في العالم الحديث، وبدلا من ذلك فإنها هزمت نفسها بنفسها، وسلَّمت مقاليد أمورها للبيروقراطية العسكرية التي تقودها اليوم إلى مثواها الأخير.
———————————————————-
المصادر
- عصر الثورة، إريك هوبزباوم، المنظمة العربية للترجمة
- الدولة المركزية في مصر، نزيه الأيوبي، مركز دراسات الوحدة العربية
- الطبقة الوسطى المصرية.. من الدولة وإليها، أحمد طه، العربي الجديد
- الدولة المركزية في مصر، نزيه الأيوبي، مركز دراسات الوحدة العربية
- الطبقة الوسطى المصرية.. من الدولة وإليها، أحمد طه، العربي الجديد
- جمهورية يوليو: عندما تخلق السلطة طبقتها الاجتماعية، معتز ممدوح، موقع إضاءات
- المصدر السابق
- نهاية “العقد الاجتماعي” لدولة 23 يوليو في مصر، أحمد طه، العربي الجديد
- الدولة المركزية في مصر، نزيه الأيوبي، مركز دراسات الوحدة العربية
- المؤشر العددي للفقر عند خط الفقر الوطني
- المؤشر العددي للفقر مقارنة بخط فقر 1.90 دولار في اليوم للفرد
- الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضات العربية، جلبير الأشقر
- نهاية “العقد الاجتماعي” لدولة 23 يوليو في مصر، أحمد طه، العربي الجديد
المصدر : الجزيرة