نزار حسين يكتب:..بروباغاندا..بائعة (المقاشيش)..!
نزار حسين يكتب:..بروباغاندا..بائعة (المقاشيش)..!
لم يجد بُداً من السفر، فالوضع غاية البؤس.. تلك النهارات التي كان يقضيها مع الرفاق في حديقة أحدهم المسورة بـ(الشبردق) أمام بيتهم العتيق في الحي الشعبي، ديوم بحري أو ديم الخرطوم أو العباسية أو الحاج يوسف، أو تذكر ما شئت..!
نهارات الصيف والكهرباء المقطوعة، حين كانوا يستمعون لـ (natty dead) وشتى أصداء الـ (Rasta fary)، مع (بيبسي القزاز) أو الشاي الأحمر والقهوة أحياناً.!.
و(أزهري) الحلاق بينهم يحمل (شفرته ومقصه ذو
المقبض الأسود) وتفاصيل الفقر الجميل الذي كان الجميع يتعايش معه، وحديث الرفاق عن (حق المواصلات)، (شير البوش) وتحامُل هموم الحي المشتركة، نفير الجمعة، ودق الصيوان..!
عودة الآباء الكادحين حاملين (البطيخ والموز) وبعض أكياس الرغيف..!
كل هذه المشاهد، تأتي إليه وهو راكب في الصف الأخير للقطار الذي يحمل ألوان البشر الشقراء والبيضاء
والصفراء والسوداء وهو بينهم ببشرته البنية السودانية الخاصة التي تعلن عن كتاب مختلف داخل هذا الشخص الذكرى والسِّفْر والمخطوط الخاص ذو الملامح التي لا تشبه أحداً بين هؤلاء الصامتين ببرود في هذا الجليد الذي وجد نفسه فيه بعد أن غادر حرّ (السوق العربي)
وسوق (أمدرمان) و(سعد قشرة) و(سوق )6، و(مناديل البشكير) المحببة لـ(الكماسرة) المنادين على الركاب بنغماتهم المحببة، (كلاكلة، ردمية، خليفة صابرين، الشعبية، بحري، كدرو صالحة فتيحاب)!!
يحمل درجة عالية في تخصصه، ويشغل منصباً رفيعاً في مؤسسته التي تحتفي به وتدفع له الكثير، لكنه لا يشعر بأي نوع من الوصول إلى أي مكان، لأن داخله مفقود..!
فهو ما زال يحن لبنطاله الجينز المتسخ وحذائه القديم و(بوته) الـ(Douglas) الذي اشتراه من الجنوبيين الذي
يفترشون حرم الكنيسة في المحطة الوسطى بحري، لا يزال يذكر أصوات (البروفة) التي تجري أعلى الكنيسة بأصوات المصلين (كفار الكنيسة) كما كانت تسميهم جدته (عيشة)، أصواتهم المختلطة نساءً برجال في حزن غريب..!
مازال عالقاً في نهارات الحي الساخنة وجلساتهم تحت النيمة الضخمة ومرور (الكارو) و(الركشة) و(الدرداقة) وبائعة (المقاشيش)..!
تساءل وهو ينظر إلى هذه الشقراء التي تضع نظارتها أسفل عينيها الخضراوين.. ترى كم سوداني مؤهل الآن مستعد لأن يبيع كل ما حوله ليظفر بصينية غداء فيها بعض الأرز والسلطة الخضراء وطبيخ الفاصولياء السوداني، ثم كوب من الشاي الأحمر على الأكواب (المشلخة)؟!
كم منهم يشعر بالضياع في هذا الجليد، تحصد الدول التي هاجروا إليها ملايين الدولارات بأفكارهم وأعمالهم وعلمهم الذي يحتاجه هؤلاء الذين تضيع أجمل أيام أعمارهم وهم يتحلقون حول (صحن الشطة بالدكوة بالتبش والمنانجو) في محطات البصات ذات المقاعد المكسورة التي تمشي بهم دورياً على طرقاتٍ أسفلها النفط والحديد والذهب..!!
في بلادي لا مكان للمؤهلين، فهم محاربون دائماً، ودائماً ما يعتلي المنصة أنصاف الموهوبين وأرباع المؤهلين ومكتملي الوصولية وعديمي القيم، لهذا نحن الآن أشتات في الأصقاع وأرضنا وثرواتنا مطمع لأصحاب القوة والنفوذ العالمي، ولأن المؤهلين لا يجدون خياراً سوى (الانتحار بالسفر) يستطيع المرجفون والمنافقون
والجهلاء وأشباه السودانيين (شكلاً) أن يتسلقوا السلم ويصلوا إلى القمة ويرموا الشعب في جب الفقر بحجارة الرجم الملعون لكل من يبقى ويستسلم ويدفن رأسه تحت الرمال التي تباع ليصنع منها الزجاج الذي يرسل إلينا أكواباً (مشلخة) تشرب الأجيال بها قهوة النهار تحت ذات الأشجار..!!