“من ويجز إلى أم كلثوم”.. ما الذي تقوله الموسيقى التي نفضّلها حول شخصياتنا؟
أكثر من أي وقت مضى، يستمع الناس اليوم إلى الموسيقى بأنواعها، نتعرض لها في المتاجر والمطاعم والبيئات التجارية الأخرى دون تحكم، ونلجأ إليها بشكل واع في مواقف أخرى لتحقيق غايات نفسية مختلفة، بداية من تحسين الأداء وتحفيز الخيال، وصولا إلى خلق حالة مزاجية أفضل(1)؛ لذلك لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن قائمتك المفضلة من الموسيقى والأغاني باتت علامة بارزة ربما تشير إلى بعض ملامح شخصيتك(2).
في ديسمبر/كانون الأول من كل عام تبدأ شركة “سبوتيفاي (Spotify)”، المتخصصة في البث الصوتي، في حملتها لإطلاع المستخدمين على إحصائيات حول أكثر الموسيقيين وأنواع الموسيقى التي استمعوا إليها خلال العام، وهو أمر يبدو مثيرا بالنظر إلى وجود دراسات متعددة باتت ترجح وجود علاقة بين تفضيلات الموسيقى وسمات الشخصية(3).
نعم، إنها تكشفنا
تتشكل تفضيلاتنا الموسيقية في سن مبكرة، تتشكل مثلما نتعلم اللغة، نتعرض للموسيقى التي تنتمي لعصرنا وثقافتنا، والموسيقى التي يستمع إليها آباؤنا، وخلال مرحلة المراهقة تتشكل أكثر حياتنا وذكرياتنا الأولى وتجاربنا وخطواتنا، نتمرد فنختار الموسيقى والأغاني التي نفضلها وتميزنا وتُنبِئ عن تفردنا كما نتصور، وتصحبنا في تجاربنا الجديدة، في الرحلة الأولى مع الرفاق، في الحب الأول، وفي كل التجارب الأولى، هكذا شيئا فشيئا تصير أذواقنا الموسيقية أكثر تماسكا.
بمرور السنوات تبدو لنا قائمة أغاني أو موسيقى بعينها أكثر راحة من غيرها، تلك التي شكلت ذكرياتنا، وتمتلك قدرة على غمرنا بالشجن ونقلنا للحظات الماضي حين تصدح من أي مكان، في رحلة بالسيارة أو في مطعم أو حين تُبث فجأة على أمواج الراديو(4)، وهكذا تبقى لدينا قائمة نفضلها ربما في أوقات العمل أو أوقات التأمل. تؤدي الموسيقى وظائف نفسية لدينا، مثل تحسين الأداء، وتحفيز الفضول والخيال، وخلق حالة مزاجية أو إثارة العواطف؛ وتثير بأشكالها ومحتوياتها المختلفة ردود فعل عاطفية قوية فينا(5).
الموسيقى هي أول ما يميل الناس للتحدث بشأنه عندما يكون عليهم التعرف إلى بعضهم بعضا، إنها تكشف بالفعل شيئا عن هويتنا، تتفق دراسات متعددة على أن أول ما يمكننا التنبؤ به حول سمات الأشخاص من التفضيلات الموسيقية هو مدى الانفتاح والانبساطية، إذا كانت موسيقى الراب المصاحبة لأغاني “ويجز” تبدو لك أقرب إلى الضوضاء السمعية، بحيث تفزع إلى موسيقى الجاز الناعمة مثلا فأنت على الأرجح تتمتع بقدر عالٍ من الانفتاح(6).
تُحلل الدراسة التي نشرتها مجلة “بريتش جورنال أوف سايكولوجي (British Journal of Psychology)” عام 2007 العلاقة بين أنماط الشخصية والطريقة التي “نستخدم” و”نختبر” بها الموسيقى في حياتنا اليومية، لتكشف أن سبب الميل إلى نوع ما من الموسيقى قد يكون مرتبطا بطبيعة الشخصية والمواقف التي تمر بها أيضا، وأن الفروق الفردية تلعب دورا في تحديد ذوقنا الموسيقي في نهاية المطاف.
كشفت الدراسة أن المشاركين الأكثر انفتاحا وأولئك الذين حصلوا على درجات أعلى في معدل الذكاء كانوا يميلون إلى استخدام الموسيقى بطريقة عقلانية، وإلى تفضيل الموسيقى المعقدة مثل الموسيقى الكلاسيكية أو موسيقى الجاز (بالنسبة للثقافة الأميركية)، إذ كان الاستماع إليها يمثل لهم تجارب محفزة فكريا، يستخدمونها في الغالب لزيادة الإثارة خاصة أثناء أداء المهام الرتيبة مثل التنظيف والركض وإدخال البيانات، بينما كان الانطوائيون أكثر عرضة لاستخدام الموسيقى لتنظيم المشاعر أو تحسين الحالة المزاجية.
في بداياتها، كانت الدراسات في هذا المجال قليلة ولا يمكن تعميم نتائجها، الدراسة التي نتحدث عنها مثلا أُجريت على مجموعة من الشباب الأميركيين والبريطانيين، ولم تضع في حسبانها عوامل أخرى يرجح أنها تلعب دورا في تفضيلاتنا مثل الفرق بين الجنسين والثقافات المختلفة وغيرها، لكن دراسات أخرى واصلت البحث في الأمر(7). في دراسة نشرتها مجلة “ذا أميركان جورنال أوف سايكولوجي (The American Journal of Psychology)” عام 2010، تبين للباحثين وجود علاقة بين الإعجاب بأنماط موسيقية معينة وطبيعة الشخصية(8).
وفي دراسة أخرى نشرتها مجلة “سايكولوجيكال ساينس (Psychological Science)” عام 2018 حول الإعجاب بالموسيقى لدى مستخدمي فيسبوك وعادات الاستماع إليها، وجد الباحثون أن التفضيلات الموسيقية للمشاركين تنبأت ببعض السمات الشخصية. كان الأشخاص الأكثر انفتاحا والذين يرحبون بخوض التجارب الجديدة أكثر ميلا للاستمتاع بالأنواع المعقدة والديناميكية مثل الموسيقى الكلاسيكية والأوبرا والجاز، بينما لم يفضلوا الاستماع إلى الموسيقى الهادئة أو البطيئة مثل موسيقى الروك الناعم والراب(9).
أما دراسة “جورنال أوف بيرسونالتي آند سوشيال سايكولوجي (Journal of Personality and Social Psychology)” والتي أجريت العام الجاري (2022) وشملت أكثر من 350 ألف مشارك من أكثر من 50 دولة، فقد بيّنت أن الروابط بين التفضيلات الموسيقية والشخصية عالمية، في جميع أنحاء العالم، بحيث يمكن القول بأن ما يفضله شخص انطوائي من بلد أوروبي يروق أيضا لشخص انطوائي يعيش في بلد آسيوي(10).
هل للأمر علاقة بالجينات؟
أثار ذلك انتباه الباحثين دائما، وبحث بعضهم في العلاقة بين الطريقة التي نستجيب بها إلى الأصوات وطبيعة ثقافتنا وكذلك طبيعتنا الجينية. وفي دراسة نشرتها مجلة “نيتشر (Nature)” عام 2016، اتجه فريق البحث إلى أحد المجتمعات الأصلية في حوض الأمازون في بوليفيا حيث يعيش أفرادها معزولين إلى حد كبير عن الثقافة الغربية، وباختبار أنواع مختلفة من الموسيقى، أكد الباحثون أن تفضيلاتنا تعود بالفعل إلى استجابات عصبية لترددات الأصوات في لدونة الدماغ، لكنها ليست بيولوجية (جينية) تماما، إنها تعتمد على الأصوات التي نتعرض لها في وقت مبكر من طفولتنا، الثقافة إذن تلعب دورا كبيرا في تشكيل أذواقنا(11).
مع ذلك وكما تؤكد دراسات أخرى، يشير نوع الموسيقى الذي نفضل الاستماع إليه إلى الطرق التي يعالج بها دماغنا المعلومات. في دراسة نشرتها مجلة “بلوس وان (PLOS ONE)” حول تأثير التفضيلات الموسيقية على الأنماط المعرفية، كشفت النتائج أن الأشخاص الذين يميلون إلى التعاطف مع الآخرين، وينجذبون إلى المهن الإبداعية، أكثر ميلا للاستمتاع بالموسيقى الهادئة التي تثير ردود فعل عاطفية قوية، مثل أنماط من الروك أو الموسيقى الريفية الأميركية. بينما كان المشاركون الذين يفضلون مجالات مهنية مثل الرياضيات والعلوم أكثر ميلا إلى تفضيل الموسيقى المعقدة، وغالبا ما يحبون الموسيقى الكلاسيكية والجاز والموسيقى العالمية(12).
إنها تنبئ عن الطبقة الاجتماعية أيضا
حسنا، يبدو أن للأمر جوانب أكثر تعقيدا، فوفقا للدراسة التي نشرتها مجلة “كاناديان ريفيو أوف سيكولوجي (Canadian Review of Sociology)” عام 2015، فإن الموسيقى التي نفضلها وتلك التي نكرهها تتحدث عنا أكثر مما نعتقد، فتكشف الطبقة الاجتماعية التي ننتمي إليها. أجرى الباحثون نحو 1600 مقابلة هاتفية مع أشخاص بالغين في مدينتَي “فانكوفر” و”تورنتو” الكنديتين، بهدف التعرف على موقفهم تجاه 21 نوعا من الموسيقى، فوجد الباحثون أن الأشخاص الأكثر فقرا والأقل تعليما كانوا أكثر ميلا إلى الموسيقى الريفية والديسكو والراب، بينما كان الأكثر ثراء والأفضل تعليما يميلون لأنواع الموسيقى الكلاسيكية والجاز والأوبرا والكورال والبوب والروك.
طرحت الدراسة موضوعا مثيرا للجدل في علم الاجتماع الثقافي، وهو مدى تميز “النخب” عن غيرها بمجموعتها الموسيقية المفضلة، وكشفت أن ما لا يرغب الناس في الاستماع إليه يلعب دورا رئيسيا في إقامة حدود تفصل بين الطبقات، كان هناك نوع من الموسيقى تفضله الطبقات الدنيا وترفض الطبقات العليا الاستماع إليه، والعكس أيضا.
رجحت الدراسة أيضا أن الثروة والتعليم لا يؤثران على اتساع الذوق الموسيقي للإنسان، بقدر ما تشكل الطبقة الاجتماعية وعوامل أخرى مثل العمر والجنس والعرق أذواقنا الموسيقية بطرق معقدة ومثيرة للاهتمام(13).
في النهاية، قد يكون الطريق نحو الربط بين سمات الشخصية والموسيقى المفضلة طويلا ويحتاج إلى عدد أكبر من الدراسات حتى يمكننا التأكد مما تكشف عنه، لكن كل تلك المعلومات المتاحة، ومعرفتنا بما يروق لنا الاستماع إليه، يمنحنا -على حد تعبير “أليكس بودمان” نائب الرئيس والمدير الإبداعي العالمي في سبوتيفاي- “طريقة ممتعة للتحدث عن أنفسنا”(14).
_____________________________________
المصادر:
- and Your Personality
- Personality and music: Can traits explain how people use music in everyday life?
- Musical Preferences Predict Personality: Evidence From Active Listening and Facebook Likes
- Where Does Your Taste In Music Come From?
- Music Preferences and Your Personality
- From Bach to Rock: How Music Preferences Predict Behavior
- Personality and music: Can traits explain how people use music in everyday life?
- Individual Differences in Musical Taste
- Musical Preferences Predict Personality: Evidence From Active Listening and Facebook Likes
- Musical preferences unite personalities across the globe
- Amazon music
- Personality and musical preference are connected largely the same way no matter where you live: study
- What musical taste tells us about social class
- Spotify Unwrapped: Inside the Company’s Biggest Marketing Campaign