مني ابوزيد تكتب : أوهام النُّخبـة..!
مني ابوزيد تكتب : أوهام النُّخبـة..!
“أعني بهذا الوهم سعي المثقف إلى تنصيب نفسه وصياً على الحرية والثورة، أو رسولاً للحقيقة والهداية، أو قائداً للمجتمع والأمة”.. علي حرب..!
قلت لمحدثتي في – مركز التجميل – ونحن نتجاذب أطراف الحديث، بما يكفي لحين جفاف ما تبقى من “الحنة”: إن “عوضية عذاب” كانت شجاعةً في موقفها، وباسلةً في وقفتها مع الثوار، حينما خرجت على جمهورها بأغنية “الشهيد ولدي”، بينما كان النظام السابق حاضراً، لم يسقط بعد. لأنها – ببساطة – قد غامرت بموقفها السياسي الصارخ من حكومةٍ قد تطيح بها ثورة، وقد تكبح هي جماح تلك الثورة، فتبقى بعد ذلك طويلاً، ويبقى بطشها، ويطال بعضه “عوضية عذاب”، فيصبح اسمها الفني – حينئذٍ – اسماً على مسمى..!
الحديث عن هذا، أحالني إلى فكرة قد ناقشتها يوماً، هي مفهوم البطولة السياسية، ومقوماتها، وموجبات الجدارة باستحقاقها، في ظل سيطرة النخبة في مجتمعاتنا على هذا المعنى. كنت أتأمل ظهور حواء “الطقطاقة” عبر وسائل الإعلام، وهي تسرد تاريخها الحافل خلف ذلك الإطار الهازل الذي كانت تُصِرْ برامج التلفزيون وحوارات الصحف على أن تحشر حضورها الإنساني داخله حشراً، فاسترجع كلامات جان بول سارتر وميشال فوكو عن استعلاء المثقف الذي يفكر ويحكم ويقرر إنابة عن الآخرين..!
أشاهد تلك الصور الإعلامية التي تختزل سيرة “الطقطاقة” ببسالتها الأخاذة، وكفاحها الفاتن، وحضورها التاريخي في طابع الذاتي والشخصي والخاص، فأتذكر تفنيد الدكتور “علي حرب” لأوهام المثقف، ونقده لتصوراته النخوبية والطليعية، وتعاطيه اللاهوتي مع الأفكار والأحداث، مهما بلغت رحابة بعدها الإنساني..!
تلك الحواء كانت”أيقونة” تاريخية، لكنها ظلت رهينة محبَسيْ الدهشة والمفارقة عبر وسائل الإعلام. كان يا ما كان .. غنَّاية تظاهرت ضد الاستعمار .. تمردت على الإنجليز .. سُجنت .. نُفيت .. فقدت أسنانها .. رميت بالرصاص .. لكنها رغم ذلك شهدت الجلاء .. وارتدت يوم الاستقلال ثوباً بألوان العلم .. إلخ. ثم بقيت فينا تلك الغنَّاية التي تسرد حكايات الوطن، فيُلبِسها الإعلام أثواب الطرائف، دون أن يأخذ حضورها التاريخي مأخذ الجد..!
حواء “الغناية”، بنت السودان التي تمردت على تقاليد مجتمعها “بترقيص صوتها”، ودافعت عن كرامته بروحها، لم تجد لها مكاناً بين أفكار وسطور مثقفيه، بخلاف تحية كاريوكا “الراقصة” المصرية، التي تمردت على أعراف مجتمعها “بترقيص جسدها”، ونصرت قضاياه بعقلها، فأخذت مكانة رفيعة في قلوب مفكريه ومثقفيه، وأرَّخت لسيرتها سطورهم..!
قال عنها شاعر بقامة أحمد مطر “أتمنى أن أرى حزباً عربياً واحداً يقوده مخلوق صادق وجريء وأمين وطيب القلب مثل “كاريوكا” التي بدأت راقصة وانتهت حاجة، فيما يبدأ معظم المناضلين حجاجاً وينتهون راقصين. امرأة ولا كل الرجال. كفاها شرفاً من دونهم جميعاً، أن أحداً – مهما افترى – لا يستطيع أن يثبت أبداً أنها كانت ترقص على الحبال”..!
وكرَّم مفكر بحجم ادوارد سعيد ذكراها فكتب “كانت تضاهي بهيبة حضورها نخوبيَّة المثقفين، وتؤدي دورهم في التأثير على الناس. كانت امرأة أعلم، وأذكى، وأشد انفتاحاً، من أن يحتملها أي رجل في مصر المعاصرة”..!
ولا غرو، فالإنسانية انتماء لا يعرف الطبقيَّة الاجتماعية، والوطنية لواعج وأفعال لا تعترف بالمفاضلة الفكرية، والبطولات هي جلال الأفعال لا نخبويَّة الفاعلين. ليس هنالك مناضل مثقف ومناضل تافه، ولا يوجد فعل وطني كبير وفعل وطني صغير. بل يوجد “شخص وطني” يستطيع بإخلاصه أن يجعل كل الأفعال كبيرة..!
إن “حواء الطقطاقة” – وكذلك من تماثلها – في موقفها الوجودي لا تقل عن أي مثقفة تحمل هماً فكرياً، أو أي مناضلة تملك رؤية سياسية، وهي – لأجل ذلك كله – كانت تستحق احتفاءً، وتوثيقاً إعلامياً جاداً، يكرام ذكراها، ويحترم “وحدة موضوع” تاريخها الفني والسياسي..!
munaabuzaid2@gmail.com
المصدر : الصيحة