منى أبوزيد تكتب: .. هناك فرق..هناك فرق – حصة بلا وطن ..!

منى أبوزيد تكتب: .. هناك فرق..هناك فرق – حصة بلا وطن ..!
“الشعوب التي تفشل في تشخيص أمراضها بشجاعة تموت نتيجة لتناول الدواء الخطأ”.. الصادق النيهوم..!
من المواقف المطرزة في قماش ذاكرتي مشهد درامي من أيام طفولتي، عندما كنت أدرس بإحدى مدارس العاصمة السعودية “الرياض”. أتذكر جيدًا كيف انهمرت دموعي من الغيظ، بعد نقاش طفولي حاد مع زميلتي المصرية التي اقتحمت – بشغف مصري لا يلين – حواراً بريئاً عن أكبر الدول العربية مساحة “سألتني زميلتنا السعودية عن أكبر الدول العربية مساحةً، فأجبتها بفخر ودون تردد، السودان”..!
لكن زميلتنا المصرية تصدّت للجواب بثقة عظيمة، وقالت إن بلدها مصر هي الأكبر مساحة، وأنه لا مجال للنقاش بشأن هذا الأمر. حاولت – بكل ما أوتيت من عناد طفولي – أن أشرح لها أن السودان، ثم الجزائر، ثم السعودية هي الأكبر مساحة، واستشهدت بكتب الجغرافيا، وبزميلتنا السعودية التي أقرت – عن طيب خاطر – بأن هذا هو الواقع..!
لكن زميلتي المصرية كانت قد تلقت جرعتها الكاملة من “التربية الوطنية”، ذلك النمط التربوي الذي يعلّم الأطفال أن وطنهم هو الأعظم، حتى لو ناقضت الخرائط والمنطق والأرقام..!
يومها دمعت عيناي من القهر، ليس لأنني خسرت الجدال، بل لأنني لم أنجح في أن أقول شيئاً عن بلدي. لأن مصر – بفضل تلك الطفلة الوطنية المتحمّسة – أصبحت سيدة الموقف، وإن كان ذلك على حساب الحقائق، وطبيعة الأشياء..!
أستعيد هذا المشهد اليوم، ونحن في قلب حرب تنهش تراب السودان وشعبه، لأتأمل في سؤال كبير ماذا كانت ستقول طفلة سودانية لتلك الطفلة المصرية الآن، عن مساحة بلدها السودان، وهل سيكون بوسعها أن تجادل زميلتها وهي تشاهد بلدها يتمزق أمام عينيها..!
المقارنة بيننا وبين “أشقائنا المصريين” ما تزال جارية، ولكنها اليوم تتجاوز المساحات الجغرافية، إلى المساحات الرمزية “مساحات الوعي والانتماء والحضور الوطني..!
في سودان ما قبل الحرب كنا نستيقظ يوم عيد الاستقلال على سُبات جماعي في “عطلة رسمية لا نتمثل أسبابها”، واليوم لا نكاد نستيقظ على شيء سوى وقع المسيرات، واعداد القتلى، وأحوال النزوح، وأسئلة الأطفال المشردين في منافي اللجوء والنزوح عن معنى الوطن..!
لم نكن نحتفل بالاستقلال كما يليق، وها نحن اليوم لا نملك وقتاً للحزن أو الندم، لقد خانتنا المناهج في سودان ما قبل الحرب كما خانتنا النخب، وخانتنا التربية الوطنية كما خذلتنا الممارسة السياسية..!
وفي قلب هذه المحنة، يطل علينا السؤال الحقيقي الذي ظل مؤجلًا لسنوات، هل نحن شعب يستحق الديمقراطية، بحاله الذي نعلم، وإن لم نكن كذلك، فما الذي ينقصنا لكين نستحقها، وهل تكفي كل هذه المعاناة لتصنع وعياً جديداً، وهل تكفي كل هذه الآلام لتأسيس عقد اجتماعي جديد ..!
في اليابان زرعوا الأخلاق في الحصص المدرسية، فحصدوا شعباً نبيلاً لا يكسر الإشارة، ولا يتخطى الصفوف، ولا يتهاون في تعظيم شعائره الوطنية، حتى لو لم تراقبه عين، وكذلك نحن اليوم لا نحصد ثمار ما لم نزرعه حقاً..!
اليوم بعد أن التهمت هذه الحرب نصف ذاكرنا القومية والنصف الآخر تأكله المنافي، نسأل
هل من “مُذَّكِر”؟. قبل أن تصبح هويتنا الوطنية مجرد حكايات تاريخية في كتب المدارس!.
munaabuzaid2@gmail.com
المصدر : صحيفة الكرامة