منى أبوزيد تكتب: ..هناك فرق .. لعنة. الاختلاف..!

منى أبوزيد تكتب: ..هناك فرق .. لعنة. الاختلاف..!
“عند اختلاف الرأي تجد أن السودانيين بارعون في تفتيش النوايا عوضاً عن تفنيد الحجج”.. الكاتبة..!*
كتبت سيدة سودانية مسيحية على فيسبوك منشوراً عن والدها الراحل. وأرفقت صورته بجوار صورة التابوت الذي شيع فيه جسده، وعبرت ببساطة عن افتقادها له بعد الرحيل. كان المشهد إنسانياً صافياً، لولا أنّ التعليقات سرعان ما تحولت إلى محاضر لمحاكم تفتيش..!
بعضهم سخر من الصليب المرسوم على غطاء التابوت، وبعضهم أفتى بأن الدعاء بالرحمة لوالدها الكافر لا يجوز، بينما انشغل آخرون بمهمة دعوية عاجلة لإقناعها باعتناق الإسلام..!
في قصة أخرى، أعلنت الفنانة منى مجدي رفضها للحرب. وعوضاً عن أن يُناقش الناس حجتها أو يُحاوروا موقفها،اختصروا الطريق وسلطوا على جسدها عذاباً إضافياً، فنبشوا في سيرة إصابتها بمرض خبيث وحولوه إلى أداة للتقريع. َََ..!
ثم ظهرت الناشطة رفقة عبد الرحمن – “صائدة البمبان” – في لقاء مع مجموعة من نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي المناصرين للجيش. لم يناقشها بعض المعارضين بشأن الموقف ولا جدواه، بل هرع الكثيرون إلى اتهامها بأنّها “زراعة أمنية” منذ البداية…!
ثلاثة مشاهد مختلفة، لكنّها تصب في نهر واحد، الاختلاف عندنا لا يُحتمل. فإن كان الآخر على غير دينك، سلبته إنسانيته. وإن كان على غير موقفك، ألصقت به خيانةً أو عاراً. وإن كان على غير ضفتك في الحرب، جرّدته من شرف النية. كأننا لا نعرف طريقة أخرى للتعامل مع الرأي الآخر سوى تحويل اختلافنا معه إلى لعنة..!
ولو تأملت جيداً، ستجد أن دوافع التنمر والإساءة في كل الأمثلة تنبع من الجذر نفسه، رفض قبول المختلف. مرة في العقيدة، مرة في الموقف السياسي، ومرة في الوجود نفسه بين ضفتي الحرب والسلام. وفي كل مرة، يتقدّم الغضب على العقل، ويستعير اللسان سيفاً من دم الآخر..!
المفارقة أنّنا شعب يزهو دوماً بالسمح فينا، لكننا في فضاءات الخلاف نتحول إلى جموع لا تجيد سوى إلصاق القرون ببعضها البعض. نجلس على ركام وطن يحترق، ثم ننشغل بتوزيع شهادات الكفر والخيانة واستحقاق الابتلاء بالمرض على المخالفين..!
الحرب نفسها قد تنتهي، والمعسكرات قد تتبدل، لكن الكلمات الجارحة والمواقف الشرسة تبقى. فهي لا تنحصر في حائط فيسبوك، بل تنتقل إلى نسيج العلاقات الإنسانية، فتفسد ممسكاتها وتُصيبها بالهشاشة. لهذا، ليست المشكلة في اختلافنا حول العقيدة أو السياسة أو الحرب، بل في طريقة تحويل هذا الاختلاف إلى سبب لسلب الآخر إنسانيته..!
الإنسان ليس موقفاً سياسياً ولا لافتة دينية ولا منشوراً على فيسبوك. هو أولاً وأخيراً كائن يفرح ويحزن ويفقد ويحلم. ما لم نوطن أنفسنا على مراعاة بذلك، سنظل ندور في الحلقة المفرغة نفسها، نُشيّع موتانا باللعنات، نُحاكم مرضانا بالسخرية، ونُخون من اختلف معنا بتلفيق الاتهام الجاهز. فقط لنثبت – في كل مرة – أننا لا نُجيد شيئاً قدر إجادتنا لشيطنة البعض وأبلسة البعض الآخر!.
munaabuzaid2@gmail.com
المصدر: صحيفة الكرامة