منى أبوزيد تكتب: ..هناك فرق ..في الحنين إليك..!

منى أبوزيد تكتب: ..هناك فرق ..في الحنين إليك..!
“لا بد من هذا الفراق إذن، فأدرك أنني أعمى بدونك، أنني النصف الضرير من التماعك في الحصى الغافي، وحصة حاجبيك من انحناءة الشمس في قوس الغروب”.. الشاعر شوقي بزيع..!
يمر الزمن وكأنه يسابقنا، لكن حين نفقد أماً يتوقف عند عتبة الذكرى. أربعون يوماً والوقت لم يعد أرقاماً على ساعة الهاتف، بل صار مزيجاً من الصور والملامح والدموع والضحكات التي تومض في الذهن بلا استئذان..!
الذاكرة الرسمية تحفظ لنا الوقائع كما حدثت، لكن الحنين – تلك الذاكرة الثانية التي تغير ترتيب الأحداث وتعيد رسمها بألوان العاطفة – لا يعيدنا إلى الأم كما كانت فحسب، بل كما أردنا لها أن تبقى..!
الحنين لا ينصف الحقيقة دائماً، لكنه ينصف قلوبنا. يضيف للماضي مسحة جمال مضاعفة لم تكن فيه، ويغطي الندوب بالورد. هو كاتب مبدع يعيد صياغة القصة بحيث يصبح ألمها محتملاً، وخسارتها أقل تحريضاً على العويل..!
لكن أصعب ما في الحنين أنه لا يستأذن. قد يزورك وأنت في الزحام، أو يسقط على قلبك وأنت تتظاهر بالقوة. يمد يده الخفية إلى تفاصيل صغيرة، رائحة طعام كانت تحبه أمك، دعاء كانت تردده، فنجان قهوتها على الطاولة وقت الظهيرة، رائحة عطرها التي تملأ إسدال الصلاة، فجأة يتحوّل الحاضر كله إلى مرآة تعكس غيابها..!
ومع كل ذلك، الحنين ليس عدواً، بل هو الطريقة الوحيدة التي تملكها الروح كي تظل قريبة من أحبائها الذين غابوا. إنه الجسر الذي يربط بيننا وبينهم، ولو في الخيال. فحين نجلس في صمت ونستدعيهم، نشعر أننا نحافظ على وعد غير معلن بأن لا ندع ذكراهم تذوب في صخب الحياة..!
أربعون يوماً يا أمي ولم يعلمنا الزمن بعد كيف نعيش مع هذا الفراغ وكأنه رفيق دائم، لكنه علمنا أن الحنين – مهما أثقل القلب – يظل هدية سرية من عالم الغياب، لأنه يثبت أن روحك ما تزال معنا، وأن حضنك ما يزال على عهده الجليل..!
في النهاية، ليست الذكرى ما يخلدك يا أمي، بل الحنين، لأنه يعيدك إلينا كل مرة في صورة ذكرى جديدة، كأنك لم ترحلي قط..!
اللهم أكرمها بنور لا ينطفئ ورحمةٍ لا تنقطع. اللهم اجعل حنيني إليها صدقةً جارية، وذكرِي لها دعاءً لا يُرد، وألحقني بها على خير، غير مفتونةٍ ولا مُبدّلة!.
munaabuzaid2@gmail.com
المصدر : صحيفة الكرامة