منى أبوزيد تكتب:..هناك فرق ..فن الاستقالة وبلاغة الغياب..!

منى أبوزيد تكتب:..هناك فرق ..فن الاستقالة وبلاغة الغياب..!
“الخروج من الباب الخلفي أكرم من الجلوس في الصدارة على مقعد بلا معنى، وهو شجاعة الذين يرفضون أن يكونوا شهود زور على فوضى المؤسسات”.. الكاتبة..!
في السياسة، كما في المسرح، ليس الخروج من المشهد أقل أهمية من الدخول إليه. والاستقالة ليست انكساراً أو هروباً، وقد تبدو أحياناً من أرفع أشكال الحضور..!
هي فن الانسحاب النبيل حين يصبح البقاء مجرد مشاركة في فوضى تُفقد المعنى. كثيرون كتبوا أسماءهم في التاريخ لا بما أنجزوه في المنصب، بل بما تركوه له من رسالة عند مغادرته..!
استقال وزير خارجية بريطانيا روبن كوك عام ٢٠٠٣م احتجاجاً على حرب العراق. حينها وصفت استقالته بأنها أصدق خطاب وداع في مجلس العموم..!
واستقال محمد البرادعي من منصب نائب رئيس الجمهورية في مصر عام ، ٢٠١٣م حين آثر أن يسجل موقفاً أخلاقياً على أن يظل شاهداً صامتاً..!
وباستقالته يضيف السفير عمر صديق اسمه إلى قائمة الذين فهموا أن الكرامة المهنية لا تُقدر بالرتب، وأن الصمت على العبث الإداري أخطر من ضجيج الحرب..!
السفير عمر صديق قدم استقالته لأن المكاتبات الرسمية غابت، ولأن وعود المشاركة تحولت إلى تراجعات مباغتة، ولأن التعيينات أضحت لعبة كراسي موسيقية. فشعر أن احترامه لذاته يتسع أكثر خارج المكتب..!
وللحق فإنني أجد أسبابه موضوعية، إذ كيف يمكن لوزير أن يعمل في ظل غياب أبسط أعراف المؤسسات “الكتابة الرسمية”، أو أن يتقبل أن يدار منصبه من خلف ظهره؟. كيف يستقيم التعاون حين يتحول من هم أحدث منه خبرة إلى أوصياء سياسيون عليه..!
لكن الأهم من كل ذلك، أن استقالة كهذه في ظروف كالتي نشهدها ليست مجرد شأن إداري داخلي، بل مرآة تكشف ملامح حكومة الدكتور كامل إدريس التي ما زالت خطواتها في التعيينات أبطأ من صدى قراراتها..!
هذه الحكومة ما تزال تتأخر في تسمية الوزراء وكأنها تفاوض نفسها، وتتعامل مع المناصب كجوائز ترضية لا كأدوات لإنجاز مهام. والمفارقة أن تعيين الأشخاص بات هو الحدث، بينما الذي ينبغي أن يشغل الرأي العام هو أداء الحكومة نفسه..!
في تقديري، العشوائية في التعيين لا تضر بسمعة الوزراء فقط، بل تضعف صورة الدولة أمام الداخل والخارج معاً. والرسالة التي تخرج من “تردد” الحكومة و”تخبطها” في القرارات، أخطر من أي بيان رسمي. ذلك أن الناس بطبعهم لا يثقون في مؤسسة لا تعرف ما تريد، ولا تحدد من يفعل ماذا، ومتى يفعل..!
أعتقد أن هذه الحكومة مطالبة قبل أي شيء بإعادة تعريف مهامها، ما الذي يفعله الوزير، ما الذي يتخذه رئيس الوزراء، وما الذي يُترَك للزمن؟. أما من دون ذلك سيظل المشهد السياسي مثل مسرحية يتناوب فيها الممثلون ارتجال المشاهد، بدعوى أن “مسرح العبث” يحتمل العبث..!
استقالة السفير عمر صديق – كما أراها – ليست نهاية، بل بداية لافتراع حوار مختلف عن قيمة الكفاءة أمام المحاصصة، وهيبة المؤسسات أمام المجاملات، وعن الفرق بين الوزير الذي يصنع الاتزان والوزير الذي يُصنع به التوازن..!
لم نكن نتمنى أن يكتب في سجلات الحكم المدني في السودان أن حكومة الأمل لم تؤتى فقط من قسوة ظروف هذه الحرب التي فرضت عليها سباقاً مع الزمن، بل من استقالة وزير آثر أن ينسحب حفاظاً على المعنى، فقال بغيابه ما لم يستطع أن يقول به في حضوره!.
munaabuzaid2@gmail.com
المصدر : صحيفة الكرامة