مقالات

منى أبوزيد تكتب: ..هناك فرق .. انحياز في البرزخ..!

 منى أبوزيد تكتب: ..هناك فرق .. انحياز في البرزخ..!

 

“في النوازل الوطنية يكون الجلوس على السياج أخطر من القفز على أحد الجانبين”.. الكاتبة..!

 

في أحوال الحروب والانقسامات الوطنية يتحول الحياد من موقف آمن إلى خيار محفوف بمختلف التأويلات، عندها لا يكون الصمت غياباً عن المعادلة بل جزءاً منها، وأحياناً أحد أكثر عناصرها تأثيراً، بينما يصبح الحياد فعلاً سياسياً بامتياز..!

انقسام تقدم إلى “تأسيس” و”صمود” لم يكن حدثاً عابراً، بل إعادة تشكيل ما لخريطة الانتماءات القبلية داخل الصف الواحد. وحتى في ظل وجود اتفاق على ذلك الانقسام بين أعضاء تقدم – كخطة لتوزيع المواقع والأدوار – تبقى طبيعة فرز الأعضاء في أغلبها مناطقية..!

في واقع السياسة لا تنفصل القرارات عن السياق الذي تُتخذ فيه، وفي انقسام تقدم كان السياق محفوفاً بالاعتبارات القبلية والمناطقية، وهو ما أضفى عليه بعداً هوياتياً يتجاوز الخلافات التنظيمية البحتة، ويتماهى مع البعد العنصري الشائع بين بعض سرديات الحرب نفسها..!

ولعل ذلك البعد الهوياتي هو القاسم المشترك بين ما حدث مع صمود في الحرب والحركة الشعبية “شمال” في السلم بعد انفصال الجنوب. حينما وجد غير الجنوبيين أنفسهم فجأة في فراغ سياسي وعاطفي، وقد انقطعت عنهم القضية المركزية التي شكلت مبرر نضالهم لسنوات..!

في كلا الحالين كان المنشقون ينتمون إلى أعراق وإثنيات وقبائل متعددة، الأمر الذي جعل الانقسام ليس مجرد خلاف حول البرامج أو الزعامات، بل إعادة اصطفاف على أسس الهوية والانتماء. وحتى إن كان اصطفافاً مصنوعاً ومتفقاً عليه ظلت حكاية المنطقة والقبيلة هي الاعتبار المعول عليه..!

لكن انقسام الحركة الشعبية شمال كان نتيجة راجحة لعملية سلام ولدت بموجبها دولة جديدة، وفي سياق انتقالي حاول فيه الفاعلون إعادة تعريف أدوارهم بعد غياب العدو المباشر، فكان كان الفراغ هو المحرك، وكانت المعركة نفسها هي الميدان الذي تشكل فيه فعل الانقسام الذي تكرر بعد ذلك وفقاً لذات المتوالية الهوياتية..!

أما انقسام “صمود” فجاء في أتون حرب طاحنة، حيث عاشت البلاد بأكملها وما تزال تعيش في أجواء التشرذم لأسباب عنصرية من جهة، والاصطفاف لذات الأسباب من جهة أخرى. وحيث القرارات السياسية المحكومة بضرورات الانحياز الوطني في ظل كارثة الأطماع الأجنبية والتدخلات الخارجية..!

َوعليه فإن الحياد في مثل هذه التحولات لا يمكن اعتباره موقعاً خارج الصراع، والامتناع عن إعلان المواقف تتم ترجمته عملياً إلى دعم غير معلن لجهة على حساب أخرى، إما عبر منحها وقتاً لتوسيع نفوذها، أو بحرمان خصومها من الشرعية أو الغطاء الشعبي..!

ولأن السياسة في أزمنة الحروب لا تحتمل الفراغ، فإن أي مساحة صمت تتحول تلقائياً إلى مساحة مشغولة بمصالح طرف من الأطراف..!

المفارقة أن الكثيرين يختارون الحياد ظناً منهم أنه يحميهم من الانخراط في الاستقطاب، لكن التجربة السودانية نفسها أثبتت أن الحياد في لحظة الانقسام الحاد ليس حماية بقدر ما هو إعادة تموضع..!

وقد يكون التموضع غير معلن، لكنه حاضر في كل قرار صغير أو كبير، حاضر في من تجلس إليه، وحاضر أينما تذهب، وحاضر في من تدعمه ولو بكلمة، وحاضر في من تجتنب ذكره باختيار الصمت..!

عندما يتعلق الأمر بضلوع جهات خارجية في مخطط تمزيق الوطن وزيادة معاناة السودانيين في ظل هذه الحرب يكون الحياد السياسي انحيازاً بلا لافتة، وصوتاً عدائياً بلا ضجيج، وخطاباً بنيوياً يكتب في سطور الهوامش لكنه يؤثر في هيكلة المتون..!

حياد صمود لا يقل وزناً عن الانحياز الصريح، بل ربما يفوقه أثراً حينما يقاس بتأثيره على مضمون السطر الأخير في كتاب هذه الحرب!.

 

 

munaabuzaid2@gmail.com

 

المصدر :  صحيفة الكرامة

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى